الوقت- خصصت وسائل الإعلام العالمية في هذه الايام، وخاصة في القارة الأوروبية، جزءا كبيراً من الأخبار المنشورة لموضوع أزمة قطع صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا. وعلى إثر الزيادة الحادة في أسعار الطاقة يلجأ الاوربيون إلى جمع الحطب لموسم الشتاء.
ولكن لماذا انتهى الأمر بالدول الأوروبية ذات المجتمع الحديث والاقتصادات المزدهرة وأعلى مستوى من الرفاهية الاجتماعية للفرد إلى مثل هذا الوضع؟
يعود الموضوع إلى اختيار القادة السياسيين لهذا البلد منذ سنوات عديدة والنمو الصناعي والتقدم الاقتصادي بمساعدة واردات الطاقة الرخيصة. كان الغاز الطبيعي السائل هو الناقل الأفضل والأرخص والأكثر سهولة لوصول الطاقة إلى المصانع الأوروبية الكبيرة، وكان أكبر مالك لاحتياطاته أيضًا اتصال أرضي بالقارة الخضراء.
عندما تم اكتشاف حقول غاز كبيرة في منطقة سيبيريا المجمدة في قلب الاتحاد السوفيتي السابق في أربعينيات القرن الماضي، كان لدى القادة السوفييت أحلام كبيرة في أن يصبحوا مركزًا لتصدير الغاز الطبيعي ويتحكموا في سوق الطاقة الأوروبية. منذ الستينيات، على الرغم من الخلافات والتهديدات العسكرية الكبيرة بين الكتل الشرقية والغربية، بدأ إنشاء وتشغيل خطوط أنابيب الغاز من أعماق الاتحاد السوفيتي إلى أوروبا الشرقية؛ في البداية، وصل معظم هذا الغاز المُصدَّر إلى دول الحلفاء في الكتلة الشرقية، مثل ألمانيا الشرقية، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، ولكن تدريجيًا توسّع تصدير الغاز هذا أيضًا إلى دول جنوب وغرب أوروبا.
انهيار الاتحاد السوفيتي وبداية شهر العسل بين موسكو والقارة الخضراء
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 ورثت روسيا الاتحادية معظم احتياطيات حقول الغاز وبدأت بتصديره إلى الدول الأوروبية الكبرى وعلى رأسها ألمانيا التي اعتبرت بعد عدة عقود أن جزأيها الشرقي والغربي متحدان، واعتقدت أن حقبة الحرب الباردة انتهت ولن تكون هناك أخبار عن تهديد من الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية لأوروبا. لذا فقد بدؤوا خطة اقتصادية كبيرة وزادوا حجم الصناعات عدة مرات على أساس استيراد الغاز الطبيعي الرخيص من روسيا.
حتى صراع عام 2008 بين روسيا وجورجيا لم يجعل رؤساء الدول الأوروبية، وخاصة الحكومة التي تتخذ من برلين مقراً لها، يشعرون بخطر حقيقي من موسكو، وخلال هذه الفترة تم التوصل إلى اتفاق كبير بين البلدين لتأسيس خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 1" وتم تشغيله منذ عام 2012. لم ينته العمل هنا، وبدأ قادة برلين، من خلال تمكين الجماعات اليسارية والمؤيدة للبيئة بشكل أساسي والمعروفة باسم "الحركة الخضراء"، حملة دعاية مضادة ضخمة ضد أنشطة صناعات الفحم والديزل، والتي تسببت في تلوث بيئي كبير. إضافة إلى نجاح هذه المجموعات، التي حظيت بدعم الأحزاب السياسية الألمانية، بعد سنوات من الضغط على ممثليها في البرلمان الألماني، في الموافقة على خطة إغلاق محطات الطاقة النووية في البلاد، والتي كانت منذ وقت ليس ببعيد وحدها توفر 40٪ من كهرباء ألمانيا!
كان إغلاق محطات توليد الطاقة القائمة على الطاقة الذرية أو زيت الوقود والفحم تحت شعار دعم الطاقات المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ولكن خلف ستار الحركة الخضراء كان هناك هدف أكبر وهو بناء. خط انابيبنورد ستريم 2 لاستيراد الغاز أكثر من روسيا. في السنوات الأخيرة، تم إجراء المفاوضات النهائية بين الدول الأوروبية، بقيادة ألمانيا، مع سلطات موسكو، وكان كل شيء يسير على ما يرام حتى فتحت أمريكا أعينها على هذه الصفقة وبدأت في تهديد أوروبا للتخلي عن بناء خط الأنابيب الجديد هذا، ولكن الاوروبيين كانوا قد عززوا العلاقات مع روسيا وواجهوا التهديدات الامريكية، ما الذي يمكن أن يكون أفضل من صراع جديد على أراضي أوكرانيا لنسيان مشروع نورد ستريم 2 إلى الأبد؟
الحرب في أوكرانيا وخطر الشتاء البارد على أوروبا
عندما بدأت العملية العسكرية للجيش الروسي في 24 فبراير 2022 على أراضي أوكرانيا، لم يكن هناك بلد قلق أكثر من ألمانيا بشأن الانقطاع المحتمل لصادرات الغاز إلى هذا البلد بسبب العناد والتوتر بين الولايات المتحدة وروسيا حول موضوع توسع الناتو بالقرب من الحدود الروسية.
من المثير للاهتمام معرفة أنه حتى أوكرانيا نفسها، كدولة احتلت روسيا أراضيها في منطقة القرم ودونباس، عندما تعلق الأمر بالمصالح المالية وتدفق الأموال، لم يكن هناك اعتراض على استمرار تصدير الغاز من هذا البلد إلى أوروبا. في عام 2019، مع حل الخلافات حول التفاصيل المالية، تم توقيع اتفاقية جديدة بين روسيا والاتحاد الأوروبي لمواصلة إرسال الغاز عبر خطوط الأنابيب التي تمر عبر أوكرانيا من قبل الرئيس الحالي لأوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي؛ بلغت عائدات هذا العقد لأوكرانيا 7 مليارات دولار سنويًا، وهو رقم مهم جدًا للبلد الذي مزقته الحرب والاقتصاد المريض.
حتى أن الجيش الروسي رفض مهاجمة البنية التحتية الحيوية لأوكرانيا، وخاصة المنشآت الكهربائية، والتي لعبت دورًا مهمًا في تشغيل محطات ضخ الغاز، بسبب الحاجة المتبادلة لمواصلة تصدير الغاز إلى أوروبا، الأمر الذي نتج عنه أرباح شهرية بمليارات الدولارات لهذا البلد. منذ بداية الحرب، وضعت موسكو شروطًا لأوروبا، بما في ذلك دفع الغاز بالروبل، وخفضت حجم صادراتها من الغاز بمرور الوقت، لكنها لم توقفها تمامًا.
لكن في الأشهر الأخيرة، وصلت همسات من أوروبا بشأن نشاط تخزين كميات كبيرة من الغاز لموسم الشتاء واستبدال الغاز الروسي بغاز دول مثل النرويج وأمريكا وقطر إلى آذان قادة موسكو.
في المرحلة الأولى من الحرب الأوكرانية، فشل الجيش الروسي في الإطاحة بحكومة زيلينسكي والاستيلاء على عاصمة هذا البلد، ولكن الآن، من خلال ترسيخ وجوده في الموانئ الشرقية والاستراتيجية في جنوب أوكرانيا، والتي تضم معظم الموانئ و20٪ والأجزاء المهمة من أراضي البلاد إضافة إلى موقعها المتميز. وفي عشية فصل الشتاء، يخطط بوتين للاحتفاظ بورقته الرابحة الكبيرة في المفاوضات المحتملة بشأن نهاية الحرب في أوكرانيا، ألا وهي ضخ الغاز لأوروبا.
وقف تدفق الغاز من نورد ستريم لحين رفع العقوبات عن موسكو
كانت قضية المشاكل الفنية في توربينات خط أنابيب نورد ستريم وعدم قدرة موسكو على إجراء الإصلاحات ذات الصلة بسبب العقوبات التي فرضها الغرب أفضل عذر للروس لإفشال خطة الاتحاد الأوروبي الخاصة. في الأشهر الأخيرة، قامت الدول الأوروبية بإغلاق أو تقليص قدرة بعض صناعاتها من أجل الوصول إلى تخزين 80٪ من احتياطيات الغاز الطبيعي في خزاناتها الكبيرة.
يبلغ إجمالي سعة تخزين الغاز في القارة الأوروبية حوالي 100 مليار متر مكعب. يقال إنه يتم تخزين حوالي 81 مليار متر مكعب من الغاز حاليًا في خزانات دول أوروبية مختلفة، والتي إذا بلغت طاقتها 100٪، تعادل 25٪ من الاستهلاك السنوي للقارة الأوروبية بأكملها.
كما أن أوروبا التي كانت تستورد في عام 2021 نحو 39٪ من غازها الطبيعي من روسيا، تحاول تقليل الاعتماد على هذا الغاز من خلال استيراد الغاز الطبيعي المسال من قطر وأمريكا وزيادة طاقة الاستخراج من منصات الغاز النرويجية في الشتاء القادم. وبلغ حجم صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا منذ عام 2011 حتى الآن من حيث حجم مليار متر مكعب
تصرف الكرملين، الذي كان على دراية بخطة الدول الأوروبية جيدًا، وأعلن أنه حتى يتم رفع جميع العقوبات الغربية ضد موسكو، لن يتم إنشاء تصدير الغاز من خط أنابيب نورد ستريم 1. ستشكل هذه القضية مباشرة تحديًا كبيرًا لألمانيا، التي يزيد اعتمادها على الغاز الروسي عن متوسط دول الاتحاد الأوروبي (حوالي 50٪).
يتعين على قادة برلين اتخاذ خيار صعب من خيارين: إغلاق الصناعات المرتبطة بالغاز وقبول الركود الاقتصادي، أو خفض حصص الغاز في المدينة وتقنينها والتعامل مع الاحتجاجات والاضطرابات العامة بعد ذلك.
إذا تخلت موسكو، إضافة إلى خط أنابيب نورد ستريم، عن جميع مصالحها المالية وحاولت قطع صادرات الغاز عن خطوط الأنابيب الأخرى المؤدية إلى أوروبا، فلن تقتصر المشكلة هذه المرة على ألمانيا وصناعاتها، لأن بعض الدول الأوروبية مثل البوسنة والهرسك ومولدوفا ومقدونيا الشمالية تحصل على 100٪ من وارداتها من الغاز، وتتلقى لاتفيا والنمسا وصربيا حوالي 80٪ من غازها، بينما تحصل دول مثل فنلندا وسلوفاكيا على حوالي 70٪ من غازها من روسيا وبذلك تأمنت احتياجاتهم في الشتاء.