الوقت- تصاعدت الأصوات في الجزائر لإحداث قطيعة ثقافية وإيديولوجية بشكل نهائي مع المستعمر القديم، باتخاذ جملة من التدابير على رأسها إحياء القانون المتعلق بتعميم استخدام اللغة العربية.
ومنذ مطلع الشهر الماضي، توالت قرارات إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في عدة قطاعات حكومية، وسط دعوات لتعزيز مكانة اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم تواجد الإنجليزية في التعليم.
والمقصود بتعميم العربية، اتخاذها كلغة عمل وحيدة في المحررات والمعاملات الإدارية داخل المؤسسات الرسمية في البلاد.
وفي سياق التمكين للغة العربية، باعتبارها اللغة الرسمية لدولة الجزائر بنص الدستور، تجددت الدعوات إلى إعادة إحياء “قانون تعميم اللغة العربية”.
والمقصود بكلمة “إحياء”، هو أن القانون موجود، لكنه ظل مجمدا منذ ما يقارب 30 سنة.
وفي يناير/كانون الثاني 1991، أصدرت السلطات الجزائرية قانونا يقضي بتعميم استخدام العربية في المعاملات كلها داخل القطاعات الحكومية، لكن تطبيقه بقي معلقا لأسباب يقول معارضون إنها تعود لنفوذ ما يُسمى “اللوبي الداعم لفرنسا” بالبلاد.
وباستثناء وزارة الدفاع، تستعمل كل الوزارات في الجزائر اللغة الفرنسية في أغلب مراسلاتها الداخلية وحتى في بياناتها الرسمية، على الرغم من أن الدستور ينص على أن «العربية هي اللغة الوطنية والرسمية الأولى، كما أن اللغة الأمازيغية لغة رسمية ووطنية ثانية».
وتتواصل، منذ الشهر الماضي، ردود الفعل الجزائرية دون توقف، ويبدو أنها ماضية في التزايد؛ بما سينعكس حتماً على العلاقات الفرنسية الجزائرية التي باتت تعاني من كسور وجراح لا يمكن الشفاء منها، ووحده المستقبل الكفيل بكشف مآلاتها وارتداداتها.
كما دعا رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، صالح بلعيد، البرلمان إلى سن قوانين لحماية اللغة العربية وتعميم استعمالها، مشيرا إلى أن هيئته اقترحت تخصيص شهر للاحتفاء باللغة العربية (من 1 إلى 31 ديسمبر) على مستوى جامعة الدول العربية.
وأوضح رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، خلال اليوم البرلماني، الذي انتظم بمقر المجلس الشعبي الوطني تحت شعار "المجلس الأعلى للغة العربية، مسار وإنجازات"، أن مقترح الجزائر الخاص بتنظيم شهر للغة العربية على مستوى جامعة الدول العربية، تم برعاية رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون ودعمه.
وقال المؤرخ عامر رخيلة، إن هذا النص التشريعي “تم سنه والمصادقة عليه من قبل المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الوحيدة للبرلمان آنذاك)، وصدر في الجريدة الرسمية، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ”.
وأضاف رخيلة أن “المبادرة بهذا القانون فرضتها تجاذبات سياسية بين حزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم سابقا) وحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ (محظور)، لكن أدخل الثلاجة بتعليمة (توجيه) من جهات عليا في الدولة لأسباب لازالت غامضة”.
وأكد المتحدث أن لمسة اللوبي الفرنسي كانت واضحة جدا في الدفع باتجاه تجميد القانون وعدم اعتماده، خاصة وأنه كان يأمر بالشروع في فرض اللغة العربية، في جميع المؤسسات “ليتم تعليقه قبل الآجال المحددة”.
رئيس كتلة حركة مجتمع السلم (أكبر حزب إسلامي في الجزائر)، على مستوى المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان) أحمد صادوق، أكد أن “إحياء هذا القانون مبرمج كخطوة تلي قانون تجريم الاستعمار”.
والأحد الماضي، وضع حوالي 100 نائب مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، على مستوى مكتب المجلس الشعبي الوطني.
وقال صادوق: “خطوتنا الموالية رفع التجميد عن النص، المجمد بتعليمة مجهولة سنة 1993”.
وأفاد بأن “التيار التغريبي (نسبة إلى الثقافة الغربية) المتحكم في دواليب السلطة آنذاك استطاع تجميد القانون”.
واعتبر أن الفرصة مواتية لإعادة إحيائه “كونه قانون جيد” وحتى “إضافة أو تعديل بعض المواد ليتلاءم مع الوقت الراهن” خاصة “مع التوجه الجديد للسلطة الجزائرية تجاه فرنسا”.
وقال إن التمكين للغة العربية لن يتوقف عند إحياء القانون، وإنما سن قانون آخر “يجرم” استخدام الفرنسية في المؤسسات والإدارة الرسمية للدولة الجزائرية، بما يعطي حصانة قوية للغة الوطنية.
وفي وقت يقول خبراء ومؤرخون، إن انتشار الفرنسية في الجزائر يعود إلى فرضها خلال الحقبة الاستعمارية التي استمرت 132 سنة (1830 -1962)، ومحاربة الاحتلال للعربية، فضلا عن تأخر تطبيق قوانين لتعريب الإدارة والتعليم بعد الاستقلال.
يذهب آخرون إلى القول بأن الخلاص من النفوذ الفرنسي في مفاصل الدولة الجزائرية، هو تحرير الإدارة بشكل نهائي من الفرنسية، لأنها ليست مجرد لغة عمل وإنما “إيديولوجية” تخفي ورائها في الغالب توجهات في صالح فرنسا.
وفي السياق، شدد المؤرخ عامر رخيلة، على أهمية سن القوانين، بدل الاكتفاء بالتعليمات الوزارية في تعميم العربية “لأن التراجع عن التعليمة أسهل مما يكون، باعتبارها مجرد توجيهات إدارية، ولابد من التأسيس للأمر على نص قانوني أو مرسوم تنظيمي”.
وأضاف: “القوانين لم تصمد أمام الموالين للغة الفرنسية فما بالك بتعليمات”، ليستطرد بأن “نجاح الخطوات، يتزايد بالنظر إلى المعاملة الندية والواضحة التي يتبناها الرئيس عبد المجيد تبون مع فرنسا”.
وقال: “خطاب تبون، حيال المستعمر القديم لم نسمعه من وقت الزعيم الراحل هواري بومدين (1965-1978)..وهو خطاب مرفق بإجراءات”.
وكان ناشطون جزائريون قد احتفوا بقرار وزير الشباب والرياضة عبد الرزاق سبقاق فرض استعمال اللغة العربية في المراسلات الداخلية لقطاع الرياضة.
وطالب الوزير في مذكرة وجهها للمديرين العامين ومديري الشباب والرياضة والمؤسسات التابعة لوزارته باتخاذ الإجراءات الضرورية لضمان تنفيذ القرار، بداية من نوفمبر/تشرين الثاني، مشددا على أنه “لن يسمح بأي تهاون أو تقصير في تجسيدها”، وفق وسائل إعلام محلية.
ودشن ناشطون على موقع تويتر وسما بعنوان (اللغة العربية) طالبوا من خلاله تعميم التجربة على كل الوزارات والمؤسسات الحكومية في الجزائر بدل اللغة الفرنسية.
ونشر حسام صورة المذكرة الداخلية التي عممها وزير الرياضة والشباب وعلق عليها بالقول “بداية التعريب”.
وطلبت المهندسة في مجال النقل الجوي فاطمة الزهراء مشلوف من وزير النقل عيسى بكاي الاستغناء عن اللغة الفرنسية في الوثائق الإدارية وقالت إن “الحر يكون ذو سيادة”.
واعتبر الإعلامي عبد الحميد عرفة أن “تعميم اللغة العربية وحده الطريق الصحيح لنجاة هذه الأمة”.
لكنها ليست المرة الأولى التي يطالب فيها الجزائريون بتعميم اللغة العربية والتخلص من “لغة الاحتلال” على حد وصفهم، وجعل اللغة الإنجليزية هي الثانية في البلاد.
وكان رئيس المجلس الإسلامي الأعلى التابع للرئاسة الجزائرية أبو عبد الله غلام الله قد دعا، في مايو/أيار الماضي، علماء الدين إلى “جهاد علمي” من أجل استئصال بقايا الثقافة الفرنسية من البلاد.
وكانت حركة مجتمع السلم -أكبر حزب إسلامي في الجزائر- قد قدمت مقترحا العام الماضي بتجريم استخدام الفرنسية بالمؤسسات والوثائق الرسمية ضمن التعديل الدستوري، واعتبرت “تجريم اللغة الفرنسية مقابل تعميم اللغة العربية في المؤسسات والوثائق الرسمية” خلاصا نهائيا من التبعية الثقافية والسياسية لفرنسا بصفتها المستعمر القديم.