الوقت- لا تكف الحكومة السودانيّة عن اختلاق الترهات بما يتعلق بقضيّة التطبيع، حيث زعم رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوكّ مؤخراً، أنّ التطبيع مع الكيان الغاصب “ليس حدثا محدد بموعد معين، ولكنه عملية متكاملة”، مضيفا إنّ “القرار النهائيّ في ذلك سيترك للشعب السودانيّ لتحديده عبر مؤسساته المنتخبة"، وذلك عقب إدخال السودان حظيرة التطبيع الأمريكيّة مع الكيان الصهيونيّ الغاصب في 23 تشرين الأول 2020، ودخول القرار الأمريكيّ برفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب حيز التنفيذ، بعد أن عرضت إدارة الرئيس الأمريكيّ السابق، دونالد ترامب، ما يصل إلى 850 مليون دولار لضحايا الهجمات الإرهابيّة وإجبار الخرطوم على دفعها، وما تبع ذلك من تدشين ائتلاف "القوى الشعبيّة السودانيّة لمقاومة التطبيع مع العدو المجرم، وإطلاقه حملة "قاوم" التي تدعم مبدأ اللاءات الثلاثة "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف" بالكيان الصهيونيّ الباغي، وإعلان وزير العدل السودانيّ، نصر الدين عبد الباري، في 19 نيسان المنصرم، أنّ بلاده ألغت رسميّاً قانون مقاطعة "إسرائيل" لعام 1958.
وفي هذا الشأن، تعيدنا الحكومة السودانيّة إلى المربع الأول في هذه القضيّة، لتكرر مزاعمها المكشوفة بالنسبة للسودانيين لاختلاق إيجابيات لفعلتها النكراء، حيث زعمت حكومة الخرطوم في وقت سابق أنّ قانون مقاطعة العدو الصهيونيّ، حرم السودان من الدخول في كثير من المنظمات الدوليّة المهمة للغاية، مدعيّة أنّ إلغاءه لا يعني أن علاقات السودان طبيعية مع تل أبيب.
وكأنّ الحكومة السودانيّة الانتقاليّة، تحاول استعطاف شعبها بعد أن عارضت نسقه الفكريّ والعقائديّ، بما يهدد استقرار البلاد ويجهرها إلى نفق من العنف والتخريب، لأنّ التطبيع يخالف بالفعل موقف السودانيين المبدئيّ، خاصة وأنّ الكيان الصهيونيّ يستهدف وحدة البلاد منذ أمد طويل، وقبل فترة أوضح وزير الاستثمار والتعاون الدوليّ السودانيّ، الهادي محمد إبراهيم، أنّ "كافة الدول العربية سواء أكانت السعودية أم قطر أم الامارات أم دول الخليج بالكامل إلى جانب الأردن ومصر ولبنان كل هذه الدول خلقت علاقات طبيعية مع الكيان الصهيونيّ"، معتبراً أنّه "بالنسبة للحكومة السودانيّة لا يوجد أيّ نوع من المقاطعة ولكن تأتي فيما بعد التنظيم إذا كان هنالك أي نوع من العلاقات يقررها البرلمان المنتخب".
ويقوم المسؤولون السودانيون كل بضعة أسابيع، بتكرار ما يشبه مزاعم رئيس مجلس السيادة السودانيّ، عبد الفتاح البرهان، الذي أصر على السير في طريق الخداع الذي سلكته أبوظبي والمنامة في تبرير تحالفهما مع العدو الصهيونيّ بذرائع واهية، والذي ادعى في حوار مع صحيفة “الشروق” المصريّة قبل أشهر، إجراء مشاورات مع طيف واسع من القوى السياسيّة والمجتمعيّة قبل قرار ما أسماها "المصالحة مع إسرائيل" التي وصفها بالدولة المقبولة بالنسبة للمجتمع الدوليّ.
ليعود حمدوك إلى المراوغة ويتحدث أنّ “السودان بعد الإطاحة بنظام عمر البشير بدأ اتباع سياسة لتعميم السلام داخله، وتأكيد علاقات السلام والتعاون مع جيرانه وجميع دول العالم" وكأنّه اعتراف مباشر بالخطيئة الكُبرى التي قامت بها حكومته بعيداً عن رأي الشعب، في الوقت الذي يؤمن فيه السودانيون بأنّ القضيّة لها أبعاد سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، وأنّ القضية الفلسطينيّة عادلة لشعب احتلت أرضه وانتهكت مقدساته، وأنّ حقوق الشعب الفلسطينيّ ظلت محل إجماع الشعوب الحرة والشرائع الإنسانيّة كافة.
وغالباً ما تُصور الحكومة السودانيّة قضيّة على أنّها قمح ووقود تأخذ منه القليل مقابل بيع قيم شعبها، والدليل تصريحات سابقة لوزير الاستثمار، الذي قال إنّ "اعتماد النظام المالي المزودج وإلغاء قانون مقاطعة الكيان الصهيونيّ، يتيح فرصة كبيرة جداً للسودان للاندماج في المنظمات الدولية والمجتمع الدوليّ وفي المؤسسات الماليّة الكبيرة لتعزيز شكل التعاون وزيادة التبادل السلعيّ والتجاريّ وانسياب الاستثمارات الأجنبيّة ويساعد في تعزيز دور السودان واندماجه في المجتمع الدولي".
استهجانٌ كبير
يدرك حمدون وحكومته جيداً، أنّ القوانين والتصريحات الحكوميّة الأخيرة لاقت رفضاً واسعاً وسط الشارع السودانيّ وفي أوساط الاقتصاديين والعلماء والفقهاء، وبالأخص "إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل"، الذي لاقى استهجاناً كبيراً من المجتمع السودانيّ، بالتزامن مع احتدام السباق في السودان بين مناهضي ومؤيدي التطبيع مع العدو الأخطر للعرب لكسب الأنصار لكل طرف، عن طريق جمع التوقيعات الإلكترونيّة وملء الاستمارات، وهي معركة تقسّم السودانيين بين خندقين وإن كان الخندق الأكبر لرافضي التطبيع، وطرفا هذا السباق هما "القوى الشعبية لمقاومة التطبيع" التي أعلنت قبل مدة عن تجاوز المليون توقيع إلكترونيّ رافض للتطبيع، وبين ما تُسمى جمعية "الصداقة الشعبية السودانية – الإسرائيلية" التي زعمت أنّ أكثر من 157 ألف شخص قد ملأ استمارة عضويتها.
كذلك، فإنّ "قوى الحرية والتغيير" المُسماة بـ (قحت) والرافضة للتطبيع، تضم "تجمع المهنيين السودانيين" الذي تأسس عام 2013 بعد الاحتجاجات التي عمت البلاد في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، ويضم التجمع العديد من الأكاديميين من مهندسين وأطباء وأساتذة جامعات، و"قوى نداء السودان" التي تشكلت في كانون الأول 2014، في أديس أبابا في أثيوبيا، وضمت عدة أحزاب وحركات سياسية وتنظيمات مدنية معارضة مختلفة أبرزها حزب الأمة بزعامة الراحل الصادق المهدي، بهدف إيجاد حل للأزمة السودانية وتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة البلاد في الفترة الانتقالية، كما ضمت تنظيمات مسلحة مع "قوى أحزاب الإجماع الوطني" التي تضم مجموعة من القوى المدنية المعارضة أبرزها "الحزب الشيوعيّ السوداني" و"المؤتمر السوداني المعارض" وحزبا "البعث العربيّ الاشتراكيّ" و"الناصريين" و"مبادرة المجتمع المدني" والعشرات من منظمات المجتمع المدنيّ.
ومنذ آذار الماضي، ابتدأت القوى الشعبية لمقاومة التطبيع التي تضم حركات وأحزاب ذات إيديولوجيات مختلفة من إسلاميّة ويمينيّة ويساريّة وقوميّة وشيوعيّة وغيرها، سلسلة لقاءات لحشد المناهضين للتطبيع على صعيد واحد، وتعتبر أنّ أيّ محاولة لتمرير التطبيع مع الكيان الصهيونيّ استناداً على توازن القوى الراهن، يمثل انتهازيّة سياسيّة مكشوفة، من خلال استغلال الظروف التي خلفها النظام المُباد اقتصاديّاً وسياسيّاً عوضاً عن العمل على مواجهتها باستنهاض إرادة التغيير لتمثيل مواقف الشعب السودانيّ ومبادئه في الحرية والسلام والعدالة التي لا تتجزأ.
بناء على ما ذُكر، لم يطالب السودانيون في يوم من الأيام بالتطبيع لكنهم رفضوه بقوة وتظاهروا ضده، كيف لا؟ وهم يعتبرون الكيان الصهيونيّ المُحتل عدو للمسلمين والعرب والفلسطينيين لأنّه من أكثر الكيانات إجراماً في العالم، ويعتبرون أنّ خيانة حكومتهم محض صفقة مذلة معزولة تمت في الظلام، وتم استدراج بلادهم إليها رغم أنفهم، في خيانة حكوميّة تحقق نصراً معنوياً وسياسياً لكيان محتل ظالم، وخذلاناً قاسياً لشعب مظلوم.