الوقت- من خارج الأوساط السياسية التونسية أطلّ أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيد، على المشهد التونسي، بأسلوبه المميز البسيط القريب من الناس لاسيما فئة الشباب التي كان لها الدور الأكبر في فوزه بالانتخابات الرئاسية، التي تم الاعلان عنها بشكل رسمي يوم أمس الاثنين بنسبة بلغت 72.71% من أصوات الناخبين، متفوقاً بذلك على منافسه، نبيل القروي، الذي حصل على 27 % من الأصوات.
ما حققه الرئيس الجديد لتونس يعدّ انتصاراً كبيراً للشعب التونسي وإعادة إحياء لروح الثورة وتجسيد لإرادة الشعب بأبهى صور الديمقراطية التي يحتاجها العالم العربي أكثر من أي وقت مضى.
سعيد أزاح من الساحة السياسية، شخصيات نافذة في المجتمع التونسي وبعضها مخضرم في السياسة، واللافت أن سعيد لم يعتمد على أي حزب لكي يدعمه ويروّج له حملته الانتخابية، حتى إنه لم يموّل حملته الانتخابية بأموال كبيرة كما فعل منافسه نبيل القروي، وهذا ما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن سعيد لن يستطيع النجاح إلى الدور الثاني من الانتخابات، لكن قربه من الناس ولقاءه المباشر مع الناخبين وجولاته المكوكية في تونس عشية الانتخابات وقبلها متنقلاً من جهة إلى أخرى معتمداً على تمويل ذاتي بسيط وحماسة شبان لطالما شعروا بتهميش السياسيين لهم وبزيف وعودهم، بالإضافة إلى براعته في المناظرات التلفزيونية وتفوّقه على القروي في هذا المجال، كل هذه الأمور وغيرها ساهمت في وصول سعيد إلى قلوب وضمائر الناس وهذا ما دفعهم لانتخابه دوناً عن غيره.
ميول سعيّد الحقوقية والاجتماعية التي كشف عنها في الحملة الانتخابية، جعلته المرشح "المحافظ" بامتياز، فهو ضد المساواة في الميراث ومع تجريم المثلية الجنسية وضد إلغاء حكم الإعدام بالرغم من أنه رجل قانون دستوري لطالما دافع عقب الثورة عن المكتسبات الحقوقية، هذا التوجه المحافظ جعل معسكرات حزبية تصنفه "رجل الإسلاميين" وهو نعت يرفضه سعيّد.
سعيد لا يريد أن يظهر بأنه يدعم حزباً أكثر من الآخر أو يقف مع حزب في وجه حزب آخر، وسبق أن صرّح قيس سعيد بالقول " أقف على نفس المسافة من جميع الأحزاب وسألتقي الجميع لأجل التسريع بتشكيل الحكومة القادمة ".
يعدّ تشكيل الحكومة الجديدة من أهم التحديات التي سيواجهها سعيد بعد أن أغلق قوس الانتخابات التشريعية، ليس هو المطالب باختيار الطاقم الحكومي لأن ذلك من صلاحيات الحزب الفائز ممثلاً في حركة "النهضة"، وأن دوره الدستوري يقتصر على مطالبة رئيس هذا الحزب بذلك، فإن عجزت "النهضة" عن تكوين هذه الحكومة نظراً للتعقيدات التي ستواجهها، يتدخّل رئيس الجمهورية من جديد ويطلب من يصفه الدستور بـ"الشخصية الأقدر" التي يحتمل أن تتمكن من ذلك، وفي حال عجزت هذه الشخصية بدورها، فقد يضطر رئيس الدولة إلى حل البرلمان والشروع في انتخابات جديدة، وهو ما يتمناه البعض.
في ضوء تلك التداعيات، سيكتشف رئيس الجمهورية الجديد تحديات الحكم وعقباته، وسيدرك أنه ليس اللاعب الوحيد في السلطة التنفيذية، وأن البحث عن حلول وسطى هو المنهج الأسلم، وأن منهج التوافق هو الأسلم لتحقيق استمرارية الدولة، وتجنّب المواجهة مع هذا الطرف أو ذلك، خاصة في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية حادة.
حركة "النهضة" تنتصر مرتين
لا شك بأن حركة "النهضة" تشعر بالرضى عن نتائج الانتخابات الرئاسية، كيف لا وهي من دعت أنصارها منذ اليوم الأول للتصويت لـ قيس سعيد، وما إن أُذيعت نتائج الانتخابات حتى بادرت حركة النهضة إلى تقديم التهاني للمرشح قيس سعيد ودعت أنصارها إلى الاحتفال بالفوز وشارك رئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني أنصار سعيد بالفوز وكان حاضراً بالشارع "رمز الثورة" ليلة البارحة.
واستفاد قيس سعيّد من أكثر حملات الدعم السياسية، فمن جهة، ساندت معظم الأحزاب سعيّد على نحو مباشر على اختلاف انتماءاتها السياسية، من حركة "النهضة" الإسلامية، وصولاً إلى "حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحّد" الماركسي، مروراً بحزب "التيار الديموقراطي" من يسار الوسط.
ومن جهة ثانية، لم يحظ نبيل القروي سوى بدعم المرشحَين الرئاسيين المنهزمَين في الدورة الأولى، عبد الكريم الزبيدي ومهدي جمعة.
لماذا فشل نبيل قروي؟
لقد بنى القروي مسيرته المهنية في قطاع الإعلام، حيث أدار قناة "نسمة" التلفزيونية وشركة إعلانات.
ساهم القروي في تأسيس حركة "نداء تونس"، ودَعَم صعود الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، لكنه توجّه إلى بناء مشروعه السياسي الخاص قبل حوالي عامين غداة وفاة نجله.
انطلق القروي في مشروع خيري عبر جمعية "خليل تونس"، يقوم على تلقّي مساعدات وإعادة توزيعها على الناس والقيام بمشاريع خدماتية، وبثّ هذه الأنشطة على تلفزته، ما أكسبه شعبية واسعة. وتمّ إيقاف القروي في السجن نهاية الشهر الماضي بتهم تبييض أموال وتهرب ضريبي، قبل أن يُطلَق سراحه يوم الخميس ويتم إبقاؤه على ذمة القضية.
وواجه القروي فضيحة تتعلق بتعاقده مع شركة علاقات عامة كندية يملكها مستشار أمن قومي سابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ساهمت في إطاحة شعبيته.
وشهدت تونس مساء يوم الجمعة أول مناظرة بين مرشحَين رئاسيين في الدورة الثانية، حيث رفض قائد السبسي عام 2014 مناظرة منافسه المنصف المرزوقي، وخلّفت المناظرة بين سعيّد والقروي آراء متضاربة، لكن يبدو أنها ساهمت أيضاً في تراجع شعبية القروي.
الختام.. التجربة التونسية الجديدة سترخي بظلالها لا محالة على العالم العربي، وستساهم في نشر الديمقراطية الحقيقية في الدول العربية وما يحدث في تونس سيكون درساً مهماً ومفصلياً في الحياة السياسية التونسية والعربية، وأهم دلالاته أن الجيل الشاب الجديد واعٍ لأزمات بلاده ويعرف كيف يميّز جيداً بين الصادق والشفاف والذي يريد الخير للبلاد وبين من يريد خيرات البلاد لنفسه، ومن هنا لن تكون المهمة على سعيد سهلة أبداً وعليه أن يكون عند ثقة الناس به وأن يساند تطلعات الشباب.