الوقت - كسرت الانتصارات التي حقّقها الجيش السوري في حلب المشروع الإسرائيلي ضد سوريا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. عودة الجيش السوري وحلفاؤه إلى الجولان السوري المحتل بعد انسحاب قوات المعارضة المسلحة السورية والتنظيمات الإرهابية من هناك، حتّم على الكيان الإسرائيلي إجراء جردة جديدة من الحسابات تعكسها حالة القلق الأمني والتأهب التي تسود مراكز صنع القرار الإسرائيلي.
شبح حلب وضع الجماعات المسلحة في الزاوية وسمح للجيش السوري بإجراء اتصالات من موقع القوّة بغية التوصّل مع هذه الجماعات إلى تفاهمات على إخلاء المناطق التي يسيطرون عليها حسب نموذج الاستسلام في حلب، وبالفعل تمكّن الجيش حتى كتابة هذه السطور من إخراج المسلحين من 5 بلدات في الهضبة السورية، في حين تجري مفاوضات على قريتين درزيتين تجاوران الجدار الحدودي، وهي مزرعة بيت جن، وبيت جين.
لا شك أن عودة الجيش السوري إلى الهضبة السوريّة مدجّجاً بانتصار حلب يفرض على الجانب الإسرائيلي إجراء تقييم جديد للجبهة السوريّة التي عوّل عليها كثيراً للقضاء على سوريا وحزب الله، وهنا لا بد من الإشارة إلى التالي:
أوّلاً: لطالما كان الخيار الإسرائيلي في سوريا إطالة أمد الحرب لأقصى فترة ممكنة بغية الاستنزاف العسكري والاقتصادي لسوريا وحلفائها، وفي مقدّمتهم حزب الله، إلا أن انتصار حلب عكس خيبة أمل إسرائيلية مطبقة، وأكّد فشل الرهان الإسرائيلي على استنزاف الحزب، بل على العكس تماماً. تكفي الإشارة إلى التقدير السنوي الذي قدمه معهد أبحاث الأمن القومي "الإسرائيلي"، الذي يترأسه عاموس يدلين، رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) الأسبق، حول الوضع الاستراتيجي الأمني والسياسي لـ"إسرائيل" لرئيس الدولة رؤوفين ريفلين والذي دعا فيه يدلين إلى الاستعداد لمواجهة واسعة النطاق مع حزب الله مطالباً باتخاذ استراتيجية تضعف محور "إيران – سوريا – حزب الله".
ثانياً: هناك خشية إسرائيلية واضحة من انتصار الجيش السوري وحلفائه والتي تعزّز من مكانة إيران، وفق صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية التي كتبت في افتتاحيتها أنّ عودة الجيش السوري إلى مرتفعات الجولان "ستخلق تماسا بين الجيش الإسرائيلي وكل من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني". تضيف صحيفة يديعوت أحرنوت في عددها الصادر أمس الخميس: إن عودة الجيش السوري وحزب الله الذي قد تأتي معه "سرايا القدس" الإيرانية وآلاف المتطوعين الشيعة الذين يتواجدون في سوريا بقيادة إيرانية، سيحتم على "إسرائيل" تغيير سياستها في المجال الدبلوماسي، وبشكل خاص العسكري، وفق الصحيفة.
ثالثاً: يبدو واضحاً أن العودة إلى الجولان أمر بالغ الأهمية في الحسابات العسكرية، خاصّة أنها تعزز مكانة الجيش السوري، والرئيس الأسد، الاستراتيجية في العالم العربي. تعلّق جهات في الاستخبارات الإسرائيلية بالقول: لاحظنا بعد استعادة حلب، ازدياد الثقة بالنفس لدى الأسد ورغبته باستغلال الفرصة لاستعادة السيطرة على هضبة الجولان.
رابعاً: ما يزيد طينة الإسرائيليين بلّة هي الحنكة التي تعاطت بها هذه الجماعات المسلّحة مع الكيان الإسرائيلي حيث لم تشكّل لهم المساعدات الإسرائيلية التزاماً نحو الأخيرة كما يتّضح من خلال اتصالاتهم القائمة مع الجيش السوري، باعتبار أن الخيار الأنسب للكيان الإسرائيلي استنزاف سوريا عسكرياً واقتصاديّاً عبر هذه الجماعات. لا ندري، ربّما تذكّر هؤلاء مصير جيش لحد العميل في لبنان عندما تركه الجانب الإسرائيلي على الحدود، وبالتالي يريدون حماية تواجدهم قبل فوات الأوان.
خامساً: ربّما ترى بعض قيادات الجيش الإسرائيلي ضرورة اللجوء إلى تنظيم داعش الإرهابي في الجولان السوري المحتل، إلا أننا لا نستغرب من أصحاب التجربة العسكرية في الجيش، وفي مقدمتهم رئيس الأركان غادي أيزنكوت، رفض هكذا خطوة استناداً إلى التجربة التركية حيث إنقلب داعش الإرهابي على داعميه. ولكن في حال نجح وزير الحرب أفيغدرليبرمان بفرض قراره على الجيش، لا نستبعد هذه الخطوة التي ستضر بالكيان الإسرائيلي قبل غيره.
سادساً: في العمق السوري كان المشروع الكردي أحد أبرز الرهانات الإسرائيلية على تقسيم البلاد، إلا أن تضارب مصالح أعداء سوريا، تركيا والكيان الإسرائيلي، حال دون ذلك. في الحقيقة، إن الموقف التركي في عملية "درع الفرات" أحد أبرز الأسباب التي أسقطت المشروع الكردي في سوريا.
يبدو واضحاً ارتفاع منسوب القلق الإسرائيلي من تداعيات انتصار الجيش السوري وحلفائه، باستعادة مدينة حلب، والتي أرخت بظلالها اليوم على الجولان السوري المحتل، فكل ما يتعلق بسوريا في العالم برمته يتبدل حاليا، وفي مقدّمتها الحسابات الإسرائيلية.
يدرك الکيان الإسرائيلي خطورة المواجهة المباشرة في الجولان، والتي قد تفتح ما تسمى بحرب "الوجود الإسرائيلي" المشتعل في الضفة ومتأهب على حدود غزّة ولبنان، وبالتالي يرجح خبراء أن نكون خلال الفترة القادمة أمام ركود إسرائيلي في سوريا، لا يخلوا من بعض الضربات التي تسعى لرفع منسوب الثقة لدى الجيش الإسرائيلي كما فعل اليوم في مطار المزة العسكري جنوب غرب العاصمة دمشق. ولكن حتى هذه المعادلة تتجه نحو التغيير، إلاّ أنها تحتاج إلى مزيد من الوقت.