الوقت- يعتقد الكثيرون أن الرئيس الأمريكي المُنتخب دونالد ترامب والذي ستبدأ عملياً مرحلته الرئاسية في 20 كانون الثاني 2017، قد يُحدث تغيُّراً في العلاقات الأمريكية الروسية. خصوصاً بعد أن كانت تصريحاته المثيرة للجدل تجاه روسيا، تُعبِّر عن نظرةٍ مختلفة تتناقض الى حدٍ ما مع نظرة الإدارات السابقة. في وقتٍ كان فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أول من قدم التهنئة لترامب، في 9 تشرين الثاني بعد انتخابه. وهو الأمر الذي يجعل مسألة العلاقات الأمريكية الروسية ومستقبلها، مورد نقاش الباحثين والمحللين. فكيف يمكن قراءة الواقع الحالي لهذه العلاقة؟ وما هي السيناريوهات المستقبلية لها بعد انتخاب ترامب؟
الواقع الحالي للعلاقات الأمريكية الروسية
إن توصيف الواقع الحالي للعلاقات يدفعنا لتقدير أمرين أساسيين يمكن اعتبارهم العقبات الرئيسة أمام أي شراكة روسية – أمريكية ناجحة. وهم على الشكل التالي:
الأمر الأول: العقوبات الأمريكية وسياسة الإبتزاز
تُعتبر مسألة التخلص من العقوبات التي فرضتها إدراة الرئيس باراك أوباما والتي بررتها بالرد على التدخل الروسي في أوكرانيا عام 2014، أهم العقبات التي تدفع العلاقة بين موسكو وواشنطن نحو التأزم. حيث أكد مسؤولون روس بأن العقوبات الأمريكية تكلف روسيا أكثر من 100 مليار دولار سنوياً. وبحسب الخبراء الإقتصاديين فإن هذا الرقم قابل للإرتفاع، بسبب تراجع أسعار النفط. كما أن جعل العقوبات سياسة للإبتزاز الأمريكي بحق موسكو، وهو ما يُساهم به الإتحاد الأوروبي، سيكون محطَّ ترقُّب العهد الأمريكي الجديد. خصوصاً أن فوز ترامب لم يلق ترحيباً أوروبياً، مع الإشارة الى أن أوروبا سارعت لدعوة ترامب لحوار شامل، كمحاولةٍ لجسِّ نبضه السياسي تجاه العلاقات الأمريكية الأوربية السائدة.
الأمر الثاني: التواجد العسكري الأمريكي
سيُشكل موضوع التواجد العسكري الأمريكي عقبة مهمة أخرى، سيتحدَّد من خلال سلوك الإدراة الجديدة تجاهها ردات الفعل الروسية. وهو الأمر الذي تُثبته المسارعة الأوروبية ودعوة الأمين العام لحلف الناتو ترامب، لأن لا ينسى العلاقة الوطيدة التي تجمع أمريكا وأوروبا الغربية تحديداً والتي ساهمت في الحفاظ على السلام بحسب تعبيره. وهو الأمر الذي يُبرز القلق الأوروبي من سياسة الإدارة الأمريكية المقبلة، حتى على صعيد التواجد العسكري.
أما ما يخص مسألة التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، فهو يعني الطرف الروسي ولو بشكل غير مباشر، لكنه سيتغير بحسب موازين القوة التي باتت تتبدَّل.
سيناريوهات مستقبلية للعلاقات الأمريكية الروسية
على الرغم من جموح البعض نحو التشديد على وجود تغيًّرٍ في مستقبل العلاقات بسبب تصريحات ترامب تجاه روسيا، يمكن وضع السيناريوهات المستقبلية للعلاقة الأمريكية الروسية وبشكلٍ موضوعي بالتالي:
السيناريو الأول: مزيد من التأزم
إن الحرب الباردة والتي بدأت منذ سعي واشنطن لترسيخ سياسة القطب الواحد مع نهايات القرن العشرين، ما تزال مستمرة بين روسيا وأمريكا، على الرغم من مظهر التفاهم والجلوس المشترك والذي يسود المشهد المتعلق بالملف السوري تحديداً. لكن واقع السياسة الدولية للطرفين، وتبدُّل معادلات القوة على الصعيد الدولي، يجعل مسار الحرب الباردة أو الحرب الذكية (الحرب الصلبة والحرب الناعمة)، يأخذ منحاً مختلفاً دون أن تنتهي. وهنا نُشير للتالي:
- فقدت واشنطن ومنذ بداية ما الربيع العربي الكثير من شعبيتها العالمية بسبب براغماتيتها السياسية والتي بدت واضحة ليس أمام الدول الممانعة بل الشعوب عموماً. كما أن ممارساتها في خرق القانون الدولي كمسألة غزو العراق، جعلتها محط إنتقادٍ لم يسبق له مثيل. واليوم وبعد وضوح زيف ادعاءات واشنطن في الحرب على الإرهاب ودعمها للسعودية في حربها الهمجية على الشعب اليمني، لم تعد واشنطن قادرة على تأمين دعمٍ كبيرٍ لها كالذي حصل بداية التسعينات في وجه روسيا. ناهيك عن تفكك حلفها مع الدول الخليجية وغرق حلفائها الأوربيين في أزمات بنيوية داخلية.
-من جهتها، تسعى روسيا للعودة الى نفوذ الإتحاد السوفيتي. وهو ما يجعلها تستفيد من نقاط الضعف الأمريكية. دون أن توفِّر التعاون مع دول الممانعة وإن على قاعدة المصالح المشتركة. وهنا فإن روسيا استطاعت إثبات قدرتها على إدارة عددٍ من الملفات على الصعيد الدولي، بالتعاون مع الصين في مجلس الأمن. في حين تعتبر روسيا أن إيران هي بوابتها الوحيدة للشرق الأوسط، ويمكن ومن خلال التناغم معها، تأمين أرضية ممانعة للمشروع الأمريكي.
بناءاً لما تقدم، فإن السياسة الروسية الساعية لمزيد من النفوذ، لن تتوانى عن استغلال نقاط الضعف الأمريكية. وهو ما يعني مزيداً من الحرب بين الطرفين، قد يكون الشرق الأوسط والإتحاد الأوروبي ساحاتها المستقبلية.
السيناريو الثاني: الرضوخ للواقع الحالي
يمكن أن يتحقق هذا السيناريو في حال توفُّر عدة أمور أهمها:
-إن انشغال الأطراف بأزماتها الخاصة، قد يوفر بيئة للطرف الآخر من أجل تحقيق أهدافه. وهو ما يعني إمكانية قيام الطرفين بغض النظر عن الخلافات.
-ارتفاع وتيرة الأزمات الأمريكية الداخلية مع وصول دونالد ترامب للرئاسة والذي بدأت معها حالة عدم الإستقرار الداخلي الأمريكي وهو عامل جديد يطرأ على السياسة الأمريكية.
-ارتفاع أزمات حلفاء أمريكا، خصوصاً بعض الأنظمة العربية والدول الأوروبية. وهو ما يبدو حاصلاً في ظل أزمات بنيوية تعيشها هذه الدول، ومواجهتها لملفات جديدة على تحدياتها المعتادة كالإرهاب والأزمات الإقتصادية.
إن هذا السيناريو قابل للتحقيق، لجهة أن الواقع الدولي والإقليمي يشهد مزيداً من التأزم. بل إن الأطراف الدولية تعيش حالة من الصعوبة في اختيار ردات الفعل بعد تغيُّر السياسات وخروج مسار الملفات عن إدارتها. وهو ما يمكن رؤيته في: الخلافات الأمريكية الخليجية، الخلافات الخليجية الخليجية، الخلافات الأوربية الأمريكية والخلافات الروسية الأوروبية.
السيناريو الثالث: التوافق النسبي على قاعدة عدم خسارة أي طرف
هذا السيناريو هو ما يمكن أن تلجأ له الأطراف عند سعيها لإيقاف مسار حربٍ مشتعلة، دون قدرتها على تحقيق مكاسب إضافية. وهو ما يمكن تحققه في حال توفَّرت الشروط الأساسية التالية:
-قدرة الإدارة الأمريكية الجديدة على توطيد العلاقات الدبلوماسية مع روسيا، والتي تبدو في موقع القوة اليوم. وهو ما يمكن أن يحصل في حال انتهج ترامب سياسة مُغايرة للرئيس أوباما. حيث أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية، لم تكن مقبولة لدى موسكو، لا سيما على صعيد وزراء الخارجية الحالي جون كيري والسابقة هيلاري كلينتون، مما دفع العلاقات الى أدنى مستوى.
-إظهار أمريكا لنوايا حسنة وترجمتها على الصعيد العملي من خلال رفع العقوبات عن موسكو. وهو ما يبدو قابلاً للحصول، خصوصاً أن أوروبا تسير خلف التوجهات الأمريكية، والتي ألمح ترامب الى أنه سيعتمد توجهات جديدة مع إقتناعه بأن العقوبات على روسيا لم تنفع لناحية تأثيرها على الدور التوسعي لروسيا.
-التوصل الى تسوية بشأن الملف الأوكراني، خصوصاً بعد أن باتت أوروبا تعيش تحت رحمة الطرف الروسي لجهة تأمين احتياجاتها من الطاقة عبر موسكو. كما أن روسيا باتت اليوم قادرة على ابتزاز أمريكا والغرب في ملفات أخرى في الشرق الأوسط.
إن هذا السيناريو والذي يُعتبر السيناريو المُحتمل، ينتظر صدق تصريحات ترامب الإنتخابية. فالرئيس الأمريكي الجديد والذي لن يحصل على تقارير سرية تخص الأمن القومي الأمريكي إلا في حال جلوسه على المقعد الرئاسي، سيُحدِّد كطرف مؤثر في السياسة الدولية مجريات العلاقة مع روسيا. مع الإنتباه الى أنه يخضع لمؤسسات أمريكية أخرى، ستُحدد معه هذا المسار المستقبلي. وهو الأمر الذي لن يتحقق، إلا في حال اقتنعت أمريكا بأنها لن تستطيع الحصول على مكاسب جديدة، وخضعت للواقع الحالي مع قرارها الضمني بعدم المضي في أي حرب ضد موسكو.
إذن، تعيش السياسة الدولية مخاضاً ينتظر ولادة سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة. في حين تُطرح العديد من علامات الإستفهام، والتي لن تُجيب عنها إلا الأيام المستقبلية: فكيف سيكون شكل العلاقة بين روسيا وأمريكا في عهد ترامب؟ وهل يمكن أن نشهد واقعاً جديداً على الصعيد الدولي يتمثل بتقاسم للمصالح المشتركة؟ أم يمكن أن تؤول الأمور الى مزيدٍ من التصعيد؟