الوقت- حظي لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في سان بطرسبورغ في التاسع من الشهر الجاري باهتمام المراقبين ووسائل الإعلام لاعتقادهم بأن هذا اللقاء يأتي في إطار الإستراتيجية الجديدة التي تعتمدها أنقرة بشأن الأزمة السورية، وذلك من خلال التنسيق والتعاون مع المحور الروسي - الإيراني بخصوص هذه الأزمة.
فما هي أهداف هذا التقارب على ضوء المعطيات المتوفرة ومن بينها اللقاءات التي جرت بين عدد من المسؤولين الإيرانيين والأتراك في الآونة الأخيرة؟
يمكن حصر هذه الأهداف في ثلاثة محاور:
الضغط على أمريكا والاتحاد الأوروبي
كانت تركيا ومنذ عقود من الزمن جزءاً من التحالف الغربي الذي تقوده أمريكا في المنطقة، وسعت خلال تلك الفترة إلى أن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي. وزادت هذه المساعي بعد عام 2002 أيّ بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا دون أن تحقق أيّ نتيجة في هذا المجال رغم الإصلاحات السياسية التي أجرتها أنقرة داخل البلاد من أجل تحقيق هذا الهدف.
وخلال العامين الماضيين عمدت تركيا إلى تغيير سياستها بهدف الضغط على الاتحاد الأوروبي من خلال فتح حدودها لتدفق اللاجئين من سوريا والعراق باتجاه الدول الأوروبية والتي شكلت تحدياً كبيراً لهذه الدول في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وحاولت أنقرة توظيف قضية اللاجئين لصالح أهدافها الإستراتيجية وفي مقدمتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لكنها لم تحصل على نتيجة، ما اضطرها لتغيير سياستها تجاه الغرب من خلال التلويح بالسعي للتقرب من المحور الروسي - الإيراني والتنسيق معه فيما يتعلق بالقضايا التي تهم المنطقة وفي طليعتها الأزمة السورية.
ويعتقد المراقبون بأن القيادة التركية تسعى أيضاً من خلال التنسيق مع المحور الروسي- الإيراني للضغط على أمريكا للكف عن دعمها لأكراد سوريا والذي تسبب بتوتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن خلال السنة الأخيرة خصوصاً بعد مشاركة القوات الأمريكية إلى جانب قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في تنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، الأمر الذي تعتبره تركيا بأنه يشكل خطراً على أمنها باعتبار أن حزب الاتحاد الديمقراطي تربطه علاقات قوية مع حزب العمال الكردستاني (PKK) المتهم بالإرهاب والمحظور من قبل أنقرة.
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات التركية الأمريكية شهدت توتراً إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف الشهر السابق التي تتهم أنقرة المعارض "فتح الله غولن" المقيم في أمريكا بالوقوف خلفها، وأعلنت القيادة التركية أكثر من مرة بأن واشنطن قد خططت لهذه المحاولة. والحديث الذي أدلى به رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، في أن الملف السوري سيشهد تطورات أساسية خلال الشهور الستة المقبلة، يعبر بشكل واضح عن توتر العلاقات التركية الأمريكية، فيما يتعلق بدعم الأكراد في سورية وضمان أمن الحدود التركية. وبيد تركيا الآن أكثر من ورقة ضاغطة في مواجهة أمريكا وحلفائها، سواء من حيث تعطيل نشاط قاعدة "إنجرليك" أو تهديد أوروبا بموجات جديدة من اللاجئين.
إضعاف موقف الأكراد في سوريا وإنهاء مشروعهم الفيدرالي
بعد اندلاع الأزمة في سوريا في مطلع عام 2011 تهيأت فرصة تاريخية للأكراد في هذا البلد للحصول على الاستقلال السياسي النسبي في المناطق الشمالية من البلد، ما جعلهم يفكرون بإقامة حكم ذاتي في هذه المناطق. وتعارض تركيا هذا النوع من الحكم خشية أن يطالب أكرادها بحكم ذاتي مستقل على غرار أكراد سوريا وإقليم كردستان العراق لاسيّما وإن أكراد سوريا تمكنوا خلال تلك الفترة من تهيئة الأرضية للتعاون والتنسيق الدبلوماسي مع روسيا وإيران وأمريكا والعديد من الدول الأوروبية، وهذا الأمر زاد من خشية تركيا من احتمال توسع قدرة الأكراد السوريين. ولهذا تسعى القيادة التركية وتحديداً الرئيس رجب طيب أردوغان إلى إقناع موسكو وطهران بضرورة وقف هذا التعاون. وهذا الأمر يعتبر في الحقيقة من الأهداف الرئيسية التي تسعى تركيا لتحقيقها عبر تقاربها مع المحور الروسي - الإيراني بخصوص الأزمة السورية.
الخروج من حالة الانفعال ولعب دور أكبر في رسم مستقبل سوريا
الهدف الثالث الذي تسعى أنقرة لتحقيقه من وراء التقارب مع المحور الروسي - الإيراني يرتبط بالفشل السياسي والدبلوماسي الذي منيت به القيادة التركية في سوريا وعموم المنطقة.
فرغم الدعم الذي قدمته أنقرة للجماعات المسلحة ومن بينها ما يسمى "جيش الفتح" والتي تسعى لإسقاط حكومة الرئيس السوري بشار الأسد خلال السنوات الماضية لم تتمكن هذه الجماعات من تحقيق هذا الهدف، ليس هذا فحسب؛ بل تمكنت حكومة الأسد من رفع مستوى قدراتها لاسيّما في الجانب العسكري بفضل الدعم الكبير الذي قدمته لها كل من روسيا وإيران طيلة المدة المذكورة.
وبعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها القوات السورية والقوات الحليفة لها في شمال البلاد والتي أدت إلى تحرير مناطق واسعة من بينها نبل والزهراء وفك الحصار عن مدينة حلب أدركت تركيا أن إسقاط الأسد لم يعد ممكناً ولابد لها من تغيير سياستها تجاه هذا البلد، وقد اهتدت أنقرة أخيراً إلى أن حل الأزمة السورية لا يمكن أن يتحقق ما لم يتم التنسيق بشكل تام مع طهران وموسكو في هذا المجال، وهذا الأمر في الواقع يُعد من بين الأسباب المهمة الأخرى التي دعت تركيا إلى التقارب مع المحور الروسي - الإيراني كي يكون لها دور في رسم مستقبل المنطقة عموماً وسوريا على وجه التحديد.
ختاماً يجب القول بأن القيادة التركية وجدت في الاعتذار لروسيا عن إسقاط طائرة السوخوي والتقرب من إيران والانفتاح على سوريا أفضل بكثير من المراهنة على حليف أمريكي لا يعتمد عليه في المنطقة. فأنقرة قد أدركت حجم المغامرة التي أرادت أمريكا وحلفاؤها أن تدفعها نحوها، بالإضافة إلى اتساع رقعة الإرهاب الذي يضرب قلب تركيا، ولهذا بادرت إلى مراجعة حساباتها وإعادة ترتيب الأوراق من جديد نحو تحقيق المصالحات مع دول المنطقة وتجنب التورط قدر الإمكان في المستنقع السوري.