الوقت- شهدت الأسابيع والأيام الماضية تصعيداً غير مسبوق في الخطاب الانفصالي لرئيس إٌقليم كردستان العراق المنتهية ولايته، مسعود بارزاني، حيث أن إثارة قضية الدولة القومية مع كل ما تحمله من تعقيدات وحساسيات، في هذا التوقيت الحساس الذي تعيشه المنطقة، يحمل الكثير من الدلالات والمعاني سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي، فماذا خلف الستار؟
بلغت حدة التصعيد في الخطاب الانفصالي ذروتها، مع التصريح الذي أدلى به المتحدث باسم إقليم كردستان العراق، بأن قوات البشمركة لن تنسحب من المناطق التي سيطرت عليها في نطاق محافظة نينوى، وأنها ستتقدم لتحرير ما قالت انه مناطق كردستانية في محيط مدينة الموصل، في خروج علني عن تعليمات الحكم المركزي في بغداد، وعدم الاستجابة لمطالبة رئيس الوزراء حيدر العبادي لها بالتوقف مكانها وعدم التقدم نحو الموصل. وقد كان آخر مواقف البيشمركة، عدم السماح للجيش العراقي من التوغل والدخول الى قضاء مخمور واحتجازهم لجنود مجازين ومنعهم من العودة، في دليل على أن مساعي مسعود البارزاني لا تقف عند المطالبة بالانفصال عن الحكم المركزي، بل أقتطاع أكبر قدر ممكن من الأراضي العراقية مستغلة بذلك الحالة التي أوجدها تنظيم داعش الارهابي.
وقد تحدثت تقارير صحفية عديدة عن عمليات تهجير ممنهجة ترتكبها قوات البيشمركة في المناطق التي تسيطر عليها من تنظيم داعش، وأن العديد من سكان تلك المناطق من التركمان والعرب قد جرى تدمير بيوتهم لمنعهم من العودة إليها، في محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي يخدم مستقبلاً الأهداف الانفصالية.
وفي نفس السياق صرح مسعود بارزاني منذ أيام بأنه "ليس أمام كوردستان العراق من طريق سوى الاستقلال"، كما صرح نجله "مسرور برزاني"، الذي يشغل منصب رئيس مجلس الأمن في الإقليم، في حوار مع صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قائلاً: “لسنا مواطنين عراقيين ولا توجد بيننا وبين بغداد اية روابط ثقة وان الحل الوحيد هو الانفصال بالنسبة لنا".
هذا الخطاب التصعيدي من قبل بارزاني في هذا الوقت ينطوي على العديد من الدلالات سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، والتي نجملها فيما يلي:
الصعيد الداخلي
تأتي إثارة قضية الانفصال والدولة الكردية من قبل بارزاني، في الوقت الذي يشهد فيه إقليم كردستان أزمة سياسية داخلية منذ نحو عام بسبب مطالبة كل من "الاتحاد الوطني" بزعامة جلال طالباني، و "حركة التغيير" والقوى الاسلامية، بتقليص صلاحيات رئيس الاقليم والانتقال إلى النظام البرلماني، ويرى مراقبون إن إثارة قضية الانفصال والدولة القومية الكردية في هذا التوقيت بالذات هو محاولة من برزاني للهروب من الأزمات الداخلية، وإبعاد الأنظار عن حقيقة المشاكل الحالية، من خلال إثارة قضايا معقدة غير قابلة للحل على المدى المنظور، ليجد لنفسه المسوغ للتمديد للرئاسة، وكذلك وضع قيود على الحياة السياسية والحريات، بحجة أن القضية المثارة هي قضية مهمة ومركزية، وأولوية بالنسبة للشعب في إقليم كردستان.
والجدير بالذكر أن حزب ا"لاتحاد الوطني الكوردستاني" كان قد ابرم في أيار/مايو الماضي اتفاقا سياسيا مع "حركة التغيير" يقضي بتوحيد مواقفهما السياسية في الاقليم والعراق، وقد شكل الحزبان الكتلة الكردية الأكبر في البرلمان العراقي، مما أضعف من موقف برزاني إلى حد كبير، خاصة بعد رفضهما المشاركة في اجتماع دعا اليه الأخير بغية بحث مسألة الاستفتاء على استقلال الاقليم.
ويبدو أن بارزاني يريد أن يتسغل ورقة الدولة القومية ومن جهة أخرى ورقة محاربة داعش، ليصور نفسه الحامي والمدافع عن مصالح وتطلعات الشعب الكردي، وتوظيف هذه الأوراق لكسب المعركة السياسية الداخلية، وتعزيز مواقع حزبه في الإقليم وكسب المشروعية خاصة بعد أن انتهت ولايته الرئاسية، والمعارضة الأحزاب الكردية للتمديد.
الصعيد الخارجي
من الناحية الخارجية لا يمكن فصل تصريحات بارزاني الانفصالية عن المتغيرات الاقليمية المستجدة في المنطقة، لا سيما الاستدارة التركية الجديدة نحو روسيا وإيران، ويبدو أن أمريكا تريد فرملة هذه الاستدارة عن طريق التلويح بالورقة الكردية في كل من العراق وسوريا، فقد جاءت تصريحات بارزاني متزامنة مع المستجدات في مدينة الحسكة السورية التي شهدت اشتباكات بين قوات الأسايش الكردية والجيش السوري،كما شهدت تحليقاً للطائرات الأمريكية للحد من تدخل سلاح الجو السوري.
ولا شك بأن هذه الخطوات التصعيدية لا يمكن أن تأتي إلا بالتنسيق مع أمريكا، خاصة وأن بارزاني لن يخاطر بمفرده في خطوة تعتبر خطاً أحمر لكل الدول المحيطة أي إيران وتركيا والعراق وسوريا.
ويبدو أن بارزاني يطمح لاستغلال تراجع العلاقات التركية الأمريكية، بهدف أن يحل مكان أردوغان كحليف استراتيجي للغرب في المنطقة، واستغلال هذا الوضع لتكريس زعامته على المشروع الكردي ككل، مستعيناً في الوقت نفسه بعلاقاته الاستراتيجية مع الكيان الاسرائيلي، والدول الغربية، وحاجة أمريكا لوكيل جديد في المنطقة بعد تراجع علاقاتها بتركيا، وعجز السعودية في اليمن، والمشكلات التي تعصف ببقية حلفائها في المنطقة.
إلا أن بارزاني بسياسته هذه يخاطر بمستقبل وأمن الأكراد، من خلال ما سيترتب عليها من ضرب التعايش الكردي مع المحيط، ووضع الأكراد في دولة معزولة في مواجهة جيرانهم، وزجهم في صراعات بالوكالة لصالح أمريكا، قد يحقق منها بارزاني مصالح حزبية ضيقة في الأمد القريب، لكنها بالطبع ستجلب له الويل مستقبلاً، كما هو حال كل حلفاء أمريكا الذين وثقوا بها.