الوقت - شكلت الخطوة الروسية تجاه طهران، حالةً من الصدمة لدى صُناع القرار على الصعيد الدولي والإقليمي. ليس لأنها لم تكون مُتوقَّعة، على الرغم من أن واشنطن حاولت التقليل من حيرتها تجاه الخطوة بالتصريح بأنها كانت تتوقع ذلك، بل لأن الخطوة تتجاوز حدود التنسيق الإيراني الروسي في آثارها، مساحة الحرب السورية. وتتعدى ذلك للأوراق الإقليمية والدولية، والتي سترفع حتماً من دور الطرفين الإيراني والروسي. فكيف يمكن قراءة مشهد الأطراف بدقة بعد هذه الخطوة؟ وما هي دلالات هذه الخطوة عسكرياً وسياسياً؟ وكيف شكَّلت الخطوة رسالة موجعة إقليمية ودولية؟
المشهد الجديد: توصيف وتحليل دقيق
السؤال الأبرز والذي يُعتبر مدخل فهم الدلالات، هو حول حقيقة المشهد، وكيف تتموضع الأطراف بعد هذه الخطوة. وهنا نُشير للتالي:
أولاً: في الجانب الروسي، يجب الإلتفات لنقطتين:
- أكدت موسكو من خلال توجهها الحالي، أنها لم تعد تؤمن بالطرف الأمريكي فيما يخص الحرب السورية. فرهاناتها على إمكانية الوصول لنقطة توافقٍ تُفضي لتقاسم المصالح في سوريا بين الطرفين الروسي والأمريكي، سقطت، خصوصاً بعد النفاق الأمريكي في اتفاق الهدنة منذ ستة أشهر. فيما يبدو واضحاً، أن روسيا كانت تعمل ضمن مسارٍ يُؤمن بالعلاقة مع طهران، كخيارٍ مُهدِّدٍ لواشنطن، حيث لم تعد الأخيرة بحجم التنازلات المطلوبة في الساحة السورية.
- لنقول أن موسكو اتخذت قرارها في تنحية أهداف أمريكا وخطوطها المرسومة، وإخراجها من دائرة الأهمية، من خلال قيامها بالخطوة العسكرية. والتي جاءت ضمن توقيتٍ ذكيٍ دقيقٍ ومدروسٍ من قبل الجانبين الروسي والإيراني. حيث يقع الطرف الأمريكي تحت وطأة ملفاته الداخلية لا سيما الإنتخابات، ويفتقد للأوراق الحالية القادرة على التأثير. وهو ما يُعتبر بحد ذاته إعترافاً روسياً ضمنياً بإستراتيجية العلاقة مع طهران، كطرفٍ ثابتٍ في السياسة الدولية، ولو كان ذلك على حساب المصالح الروسية مع أمريكا.
ثانياً: من ناحية الطرف الإيراني، يجب معرفة التالي:
- منذ البداية تعتبر إيران الأزمة السورية أزمة حليفها الإستراتيجي. وهي تتعاطى مع ذلك ضمن قواعد العلاقة المُتفق عليها بين الطرفين السوري والإيراني. فكانت أول داعمٍ للنظام الشرعي، كجزءٍ أساسيٍ من محور المقاومة. حيث أن تهديدات الحرب على سوريا، لم تكن لتقف عند الحدود السورية، بل هي تهدف لضرب محور المقاومة الذي تقوده إيران.
- بعد تغيُّر المعادلات في سوريا، وسقوط الرهانات الإقليمية وكذلك الأمريكية والغربية، إنخرطت روسيا في الصراع كحليفٍ لمحور المقاومة. وهو ما تعاطت معه طهران من منطلق العلاقة الإستراتيجية. فيما كانت إنجازات محور المقاومة الميدانية في سوريا، نقطة قوة روسيا أمام التحديات الأمريكية الدولية لها. وهو ما عزَّز النفوذ الروسي. لتتقاطع مصالح روسيا وإيران فيما يخص الأزمة السورية، إن لجهة أهمية بقاء النظام السوري الشرعي والذي يتمتع بتأييد شعبيٍ واسع، أو لجهة الخطر التكفيري الإرهابي على الأمن القومي للبلدين. لتأتي خطوة اليوم، ضمن هذا المسار.
ثالثاً: بالنسبة لواشنطن، يجب مراعاة التالي:
- يمكن اليقين بأن أمريكا ستعتبر الخطوة الروسية الإيرانية، تحدياً لمصالحها في سوريا. لكنها عاجزة حالياً عن القيام بأي رد فعلٍ مؤثر، خصوصاً بسبب التحضيرات للإنتخابات الأمريكية، وصعوبة التحديات أمام الإدارة الأمريكية الديمقراطية لا سيما في القدرة على إقفال الملفات الحالية. وهو ما سينعكس حتماً على الميدان السوري.
- ستأخذ واشنطن خياراً في دعم المسلحين، كما أعلن مُنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج الفارسي "روبيرت مالي" لمجلة "فورين بوليسي"، من أن واشنطن ستفعل المستحيل لكي تمنع إنتصار النظام السوري، مؤكداً بأن مناورة موسكو، لن تُفقد واشنطن شيئاً، والتي ستسعى لمنع أي أفقٍ لإنهاء الصراع السوري حالياً.
دلالات الخطوة العسكرية: رسائل موجعة من دون ثمن!
على صعيد ردات الفعل، يبدو واضحاً أن جميع الأطراف الإقليمية والدولية المناوءة لمحور المقاومة، باتت عاجزة أمام أي ردة فعلٍ يمكن أن تؤثِّر في مجريات الأمور ولو حالياً. وهو ما يُشير الى تعاظم الدور الروسي والإيراني على حساب الدور الأمريكي والغربي في المنطقة.
وهنا نُشير للدلالات المهمة بموضوعية:
أولاً: يُثبت التنسيق الروسي الإيراني، بداية الإنتقال نحو نظامٍ إقليمي جديد، لم تعد أمريكا فيه المُقرِّر الوحيد. بل يبدو أن واشنطن، ستعيش فترة من الرضوخ للنتائج، حيث أن الإنتخابات الأمريكية باتت قريبة، ومع دخول الرئيس الجديد، سيتبيَّن أسلوب واشنطن الفعلي تجاه الملفات المُستجدة، لا سيما تجاه ارتفاع تأثير السياسة المُعادية لها، وقدرتها على فرض الأوراق. فيما يسود حلفاء أمريكا في المنطقة، حالة من الضعف، والإنشغال الداخلي بحل الأزمات، لا سيما بعد فشل الرهانات في سوريا والعراق واليمن.
ثانياً: أثبتت الخطوة وجود علاقة إستراتيجية بين الطرفين الروسي والإيراني، تتخطى حدود الأزمة السورية. وهو ما سيُقلق حتماً حلفاء واشنطن في المنطقة، لا سيما الكيان الإسرائيلي. حيث أن تل أبيب، والتي تُعتبر طرفاً إقليمياً لم يرتق لمستوى الصراع الدولي، ستجد نفسها أمام تكتُّلٍ جديد، يضم دولتين متعاظمتين كروسيا وإيران. وهو ما يُهدِّد مصالحها الإستراتيجية، خصوصاً في ظل سعيها لنسج تحالفاتٍ مع الأنظمة العربية، كمحاولة لمحاصرة الطرف الإيراني. لتأتي هذه الخطوة، كتثبيتٍ لواقع إيران المتعاظم في الإقليم، أمام تراجعٍ أمريكي واضح في القدرة على المناورة والتاثير. في حين أن تل أبيب عاجزة، ولن تستطيع سوى تقبُّل الحدث، وترقُّب المستقبل. حيث أن حساباتها مهما بلغت، لا يمكن أن تتخطى الحسابات الدولية الأمريكية.
ثالثاً: تُعتبر الخطوة، نجاحاً لسياسة إيران الإستراتيجية، لا سيما لناحية التناغم مع الأطراف المتعددة، دون الرضوخ، أو التنازل في المبادئ والخطوط الحمراء. فمهما كانت نتيجة الخطوة، فهي لن تنعكس إلا في صالح الطرف الإيراني. وهو ما تختلف به طهران عن موسكو. حيث أن الخطوة العسكرية، لن ترفع من عداء أمريكا لإيران المعروف والعلني. لكنها حتماً، سترفع من مستوى التحدي بين الطرفين الروسي والأمريكي، والذين يؤثر على حسابات الطرفين، فيما يخص الإقليم والعالم. لنقول أن المستقبل، هو من يُحدِّد ردة الفعل الأمريكية، والتي مهما بلغت، فهي لن تُشكِّل جديداً على إيران.
لا شك أن الخطوة الروسية الإيرانية ستُلقي بظلالها على الصراع الإقليمي والدولي. لكنها كانت هذه المرة، في حسابات الفعل أكثر من ردة الفعل. لنقول أن الأيام المقبلة، مفتوحة على نتائج الخطوة، والتي لن تكون على الصعيد السوري فقط بل ستمتد نحو المنطقة والعالم. فيما تضمَّنت العديد من الرسائل المُوجعة من دون ثمن!