الوقت - ساعات قليلة حابسة للانفاس شهدها الشارع التركي ابتداء من ليل الجمعة وحتى صباح السبت، وذلك على وقع الانقلاب العسكري الفاشل الذي حاولت من خلاله مجموعة من ضباط الجيش إنهاء حكم حزب العدالة والتنمية، وبسط سيطرتها على البلاد. فبعد إعلان الجيش فرض الأحكام العرفية، وحظر التجول في أنحاء البلاد، خرج رئيس الوزراء التركي معلنا فشل المحاولة الانقلابية مؤكدا على استعادة السيطرة على الأمن في البلاد.
وفي تحليل هذا الحدث الذي شغل المنطقة والعالم خلال الساعات الماضية، يمكن الاشارة إلى عدة فرضيات حول هوية الجهات المسؤولة والمدبرة ذات المصلحة من تحقق هذا الانقلاب:
الفرضية الأولى: ضلوع جماعة الداعية فتح الله غولن، خصم أردوغان وحليفه السابق والشخصية النافذة في مؤسسات الدولة التركية، وقد حمله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المسؤولية المباشرة عن تنفيذ محاولة الانقلاب بعد ساعات قليلة من حدوثه، وبالرغم من نفي جماعة غولن مسؤوليتها، وإدانتها لـ "أي تدخل مسلح" في الشؤون الداخلية في تركيا، إلا أن ذلك لا يدفع عنها الشبهات حول تدبير الانقلاب للاطاحة بأردوغان وحزب العدالة والتنمية.
وفقاً للمصادر الاعلامية فإن الضباط الذين أشرفوا على محاولة الانقلاب ينتسبون إلى القوات الموالية لغولن داخل الجيش، حيث أن القوات الأساسية التي شاركت في الانقلاب العسكري كانت من القوات الجوية وقواد الدرك (الموالية لجماعة غولن) في حين لم تشارك القوات البرية بشكل واسع، وهي عادة القوات صاحبة الدور الرئيسي في الانقلابات العسكرية.
وقد شهد الأسبوع الماضي عمليات مكثفة قامت بها الدولة التركية بهدف استئصال العناصر الموالية لغولن داخل الجيش، كما كان من المقرر خلال الأيام القادمة أن يتم تشكيل مجلس استشاري عسكري للجيش التركي، توقع مراقبون أن يتخذ تدابير حاسمة ضد اتباع غولن في الجيش التركي، وهو ما يعزز فرضية تدبير أتباع غولن للانقلاب العسكري.
وخلال العامين الماضين، شنت الدولة التركية عمليات مكثفة ضد أتباع غولن في مرافق الدولة المختلفة، الأمنية والعسكرية والقضائية والاعلامية، وقد تم اعتقال وإقالة مئات الاشخاص بتهمة التعاون مع "التيار السري لغولن" داخل الدولة. ولكن في الاسبوع الماضي كانت المرة الأولى التي يتم اعتقال عدد من ضباط الجيش، الأمر الذي كان بمثابة جرس إنذار لأنصار غولن الذي أيقن أن الدولة جادة في مواجهتهم واستئصالهم، مما دفعهم للقيام بمغامرة الانقلاب العسكري طالما أنه لم يبق لهم ما يخسرونه.
وهناك من يهمس عن علم أمريكي مسبق بمخطط جماعة غولن، خاصة وأنه يقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية وتربطه علاقات مميزة مع القيادة الأمريكية، حيث تشير مصادر اعلامية أن أمريكا قد غضت الطرف عن مخطط الانقلاب وتعمدت عدم اصدار أي إدانة له في بداياته، وأن موقفها الذي أعلنت فيها عن دعمها "للحكومة المنتخبة ديمقراطياً" قد جاء بعد يقينها من فشل محاولة الانقلاب.
الفرضية الثانية: مسرحية مدبرة، قام بها أردوغان لتعزيز سلطته من خلال استغلال الظروف الحاصلة من أجل إضعاف الجيش، وتصفية خصومه فيه، وبالتالي إزالة أي احتمالات لقيام انقلاب عسكري حقيقي على المدى المتوسط والبعيد. إذ أن الدور السياسي الداخلي للمؤسسة العسكرية التركية لا شك سينحسر لصالح أردوغان بعد هذا الحدث.
حيث يرى مؤيدو هذه الفرضية، أن هذا الحدث من شأنه تعزيز شعبية أردوغان وإظهاره بمظهر البطل القومي الذي يمسك بمقاليد الحكم بقوة ويشرف باقتدار على أجهزة الأمن والشرطة والقوات الخاصة، ويوجه الشعب في اللحظات الحرجة مدافعاً عن خياراته في الديمقراطية. كما أن هذا الحدث سيسهم في اطلاق يد أردوغان أكثر في صفوف الجيش، وتمكينه من تصفية معارضيه بدون هوادة بحجة الحفاظ على استقرار البلد.
وقد وصف مراقبون الانقلاب الذي أُحبط أمس بـ"الغريب" من حيث أنه لم ينجح في احتجاز أي مسؤول سياسي في الحكومة أو البرلمان، بل ظهر معظمهم على شاشات التلفزة مذهولين من الحدث، كما لم يطل اختفاء أردوغان الذي كان خارج العاصمة وظهر على شاشة هاتف، ليخاطب الشعب بثقته المعهودة مؤكداً أنه عائد إلى أنقرة، وأنه سيحاسب المتمردين. كما أن جميع القوى السياسية، بما فيها المعارضة لأردوغان لم تحتضن الانقلابيون، وكأنها تعلم أنه سيفشل وأنه لا يمتلك مقومات النجاح.
الفرضية الثالثة: ردة فعل عفوية من الجيش، وذلك نتيجة لانحسار دوره في الحياة السياسية العامة، وذلك منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة منذ 14 عاماً. حيث يرى أنصار هذه الفرضية أن احتمال تنفيذ الجيش انقلاباً عسكرياً لم يكن مستبعداً منذ البداية، حيث أشارت إليه العديد من الصحف المحلية والغربية منذ أشهر، فالجيش التركي الذي يعتبر نفسه الحارس الأوحد للديمقراطيّة العلمانية، بدأ يستشعر الخطر مع تنامي النفوذ الاسلامي في الحياة السياسية، ومن ناحية أخرى، فإن تنامي النزعة الانفصالية لدى الاكراد في تركيا، بدأ يقلق الجيش الذي يعتبر القومية التركية أحد أهم ثوابته. وكان الجيش قد عبر في العديد من المناسبات عن استيائه من أداء أردوغان في الكثير من الملفات، حيث أثارت الأزمات المتلاحقة التي مرت بها البلاد منذ اندلاع الأزمة السورية، والموقف التركي منها، والارتدادات التي جلبها هذا الموقف على الاستقرار الداخلي، الكثير من المخاوف على استقرار البلاد وحماية ثوابتها، والتي يعتبر الجيش التركي نفسه المدافع الأصلي عنها.
كما أن تنامي التهديدات الارهابية في تركيا، وتراجع الشراكة التركية مع حلفائها الغربيين التقليديين، والخشية من تأثر الهوية القومية التركية بقرار تجنيس السوريين، قد يكون من بين العوامل التي دفعت الجيش التركي للتدخل، لوضع حد لسياسات أردوغان التي يراها منافية لمبادئ العلمانية التي أرساها مؤسس الدولة "مصطفى كمال أتاتورك".
أيا كانت الفرضية الصحيحة حول من يقف وراء المحاولة الانقلابية في تركيا، إلا أن المؤكد أن تصدعاً سيشوب الوحدة الوطنية التركية، مما يجعل من تركيا أقل مناعة تجاه العديد من الملفات خاصة في هذه المرحلة التي تجري فيه الدولة التركية الكثير من المراجعات لسياساتها الداخلية والخارجية، إلا أن المؤكد أن قدرة الجيش التركي على التدخل في السياسة الداخلية، قد أصبحت أقل فاعلية، وليس من المعلوم إن كان سيعود إلى دوره القديم في الأمد القريب.