الوقت- لا شك أن العالم ما يزال يتحدث عن الخروج البريطاني من الإتحاد الأوروبي بلغة الإقتصاد والسياسة المحلية. لكن المرور على الحدث من زاوية السياسة الدولية، يُعطي الكثير من الدلالات الأهم. وهنا لا يمكن تحليل أثر خروج بريطانيا على السياسة الدولية، دون العروج على أسباب نشأة الإتحاد الأوروبي. وهو الأمر المُرتبط بالعقل الأمريكي الإستراتيجي. في حين يجب الوقوف ملياً عند سؤال: هل خرجت بريطانيا، أم أن أوروبا تتفكَّك؟ وبعد الجواب على السؤال، يمكننا معرفة، كيف قدّمت السياسة الأمريكية الفاشلة وبمساعدة الأطراف الأوروبية العمياء، حلم واشنطن، كهدية للطرف الروسي.
أسباب نشأة الإتحاد الأوروبي: حقائق لم تُقل
قد لا يعرف الكثيرون سبب نشأة الإتحاد الأوروبي، والهدف الذي جعل واشنطن تسعى لتزكية المشروع. وهو الأمر الذي يُعبِّر في الحقيقة عن الهدف الإستراتيجي لأمريكا، وكيفية استغلالها لدول أوروبا. وهنا نُشير للتالي:
- إن الكيان الأوروبي المُتحد، كان عبارة عن السلة التي تحتوي كافة الدول الأوروبية، بحيث يمكن من خلال ذلك التأثير على كافة دول أوروبا، دون الحاجة الى نسج علاقاتٍ أحادية مع كل دولة. وهو الأمر الذي يُعتبر منطقياً، حيث أن قدرة واشنطن على فرض خياراتها، وسعيها للتدخل في شؤون الدول، يجعلها قادرة على معرفة كيفية الإستفادة من نظامٍ يجمع الدول الأوروبية، ويفرض بحد ذاته قوانين معينة.
- وهنا فإن السعي الأمريكي للسيطرة على القرار الأوروبي ولو بنسبة شبه كليَّة، كان يهدف لسلب الطرف الروسي أو الإتحاد السوفيتي سابقاً، هذه الفرصة، التي قد تساهم فيها الجغرافية السياسية التي تربط روسيا بأوروبا.
- ولأن النقطة السابقة، أي الجغرافيا السياسية هي أساس في نسج العلاقات، فقد كانت بريطانيا بوابة أمريكا على دول أوروبا، وهو الأمر نفسه الذي ربحته واشنطن من خلال علاقتها الإستراتيجية ببريطانيا، والذي خسرته اليوم من خلال خروج الأخيرة من الإتحاد الإوروبي.
- وليس بعيداً عن الإقتصاد، فإن تشكيل إتحادٍ أوروبي، قادر على المُضي في سياسات واشنطن، يجعله تكتلاً إقتصادياً موازياً للصين في نموها الإقتصادي العالمي. بل إن العقل الأمريكي أراد إضافة تكتلٍ إقتصاديٍ الى نفسه، لمواجهة المارد الصيني الصاعد.
- بالإضافة الى السياسة والإقتصاد، فإن الجغرافيا تعني الكثير لدى المُخطط الأمريكي. فمن خلال التحالف الأوروبي، يمكن التقدم نحو شرق أوروبا، ومحاصرة روسيا، وهو ما يعني الكثير في السياسة الدولية.
إذن، تم إنتاج ما يُسمى بالإتحاد الأوروبي، لمحاصرة روسيا جغرافياً، عبر السيطرة على قرار قارةٍ كاملة، والعمل على منافسة الصين، والتي ما تزال تتعاطى ضمن سياسةٍ أقل حدة من روسيا تجاه واشنطن، لكنها استطاعت أن تكون القوة الإقتصادية الأكبر. وبالمحصلة، يمكن من خلال تحقيق الهدفين الإمساك بالشرق الأوسط، وإنجاح المُخطط الأمريكي. فماذا بعد خروج بريطانيا؟
بعد خروج بريطانيا: ماذا تقول السياسة الدولية الجديدة؟
من خلال متابعة الإعلام الغربي، يبدو واضحاً أن أمريكا تشعر بالخيبة تجاه الخروج البريطاني. بل إن دعوة أوباما البريطانيين للتصويت على البقاء، لم تكن كلاماً عابراً، بقدر ما عبَّرت عن التمني الأمريكي. وهنا فإن عددٍ من الأمور يمكن ملاحظتها:
- لم تنجح أمريكا في الحفاظ على التكتل الأوروبي. بل إن الصراعات المُعقدة وكثرة المصالح المتشعبة، جعلت واشنطن بعيدة عن تقدير المصلحة الأوروبية. وهو الأمر الذي جعل الإتحاد الأوروبي - مشروع واشنطن الإستراتيجي - يفشل. بل إن أغلب الإحصاءات، تُشير الى وجود سخطٍ أوروبيٍ عام، من سياسة الإتحاد الأوروبي. فيما كان سلوك واشنطن الإحادي، وبراغماتيتها في إدارة المصالح، عاملاً أساسياً.
- ولأن الإدارة الأمريكية لم تنجح في محاصرة روسيا، خصوصاً من خلال الأزمة الأوكرانية، حيث استطاعت روسيا إدراة الصراع، مُدركةً أن نقطة قوتها كجارةٍ للإتحاد الأوروبي، سيجعل الجغرافيا السياسية لصالحها، خصوصاً لإعتقادها القوي بحاجة أوروبا لها، دوو تنكُّرها من حاجتها لأوروبا.
- وهو الأمر الذي سرعان ما أفرزته الأزمة السورية، فيما يخص ملفات محاربة الإرهاب وأزمة النازحين. حيث أن أوروبا وجدت نفسها في أزمةٍ لا تستطيع فيها التخلي عن روسيا، في وقت غرقت فيه بإستحداث الأزمات العسكرية في أوكرانيا والعقوبات الإقتصادية أيضاً.
وهنا وبناءاً لما تقدم، يمكن القول أن روسيا تُعتبر المُستفيد الأول من خروج بريطانيا، أو بداية تفكك أوروبا كما يقول الكثير من المحللين. حيث نستنتج التالي:
- كان أول ما نتج عن بداية التقهقر الأوروبي، توجه تركيا نحو روسيا. وهو الأمر الذي أعلن الأمريكيون أنهم تفاجأوا به، حيث أنهم تلقوا الإعتذار التركي بحذر. فيما يمكن القول أن تركيا والتي طمعت لأن تكون عضواً في الإتحاد في ظل مماطلةٍ أوروبية واضحة، فتحت الباب على التراجع نحو التوجهات الروسية، بعد أن أثبتت الأخيرة ثباتها. في ظل مشاكل في العلاقات التركية الأمريكية.
- ومن المنطلق ذاته يمكن قراءة القلق الأمريكي، من خلال الكلام الذي صرح به وزير الخارجية الأمريكية بأن بريطانيا يمكنها أن تماطل في خروجها، وهو ما جعل الجميع يُدرك أن أمريكا خسرت شريكها الأساسي في السياسة الدولية تجاه أوروبا.
- في حين كانت ردة الفعل الروسية هادئة ومُتحفظة، لم ينس الرئيس الروسي من توجيه ما وصفه الإعلام البريطاني بـ "الصفعة السياسية" لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون، والذي حاول أن يستخدم الخطر الروسي في دعايته الداخلية، لكن النتيجة جاءت معاكسة.
إذن ارتكب الإتحاد الأوروبي أخطاء جسيمة تجاه روسيا، سيدفع دوله ثمنها في إعادة نسجهم لعلاقاتهم مع موسكو. خصوصاً بعد أن أضحت الحاجة لروسيا، أمراً واقعاً. في حين أن قراراته كفرض عقوبات على روسيا، وسياسته الأحادية تجاه أوكرانيا، وانتقاد سلوك روسيا في الأزمة السورية، كلها أمورٌ سيُعيد النظر فيها أصحاب القرار الأوروبي. هذا إن قرروا الخروج من التبعية العمياء لواشنطن. في وقتٍ أكد فيه رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا "بيدرو اغرمونت" منذ أيام، أنه من دون التعاون مع روسيا لا يمكن حل مشاكل أوروبا لا سيما مسألة اللاجئين ومحاربة الارهاب. لنصل الى نتيجةٍ مفادها أن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، أو ما يمكن وصفه ببداية التفكُّك الأوروبي، ساهم في قطف روسيا، للحلم الأمريكي.