الوقت- بعد فتور ملحوظ في العلاقات التركية الروسية ووسط خلافات حادة بين الجانبين حول کثیر من القضایا الدولية والاقليمية وفي مقدمتها الازمة السورية قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً بزيارة قصيرة الى انقرة التقى خلالها نظيره التركي رجب طيب اردوغان .
واتسمت الزيارة بأهمية خاصة كونها جاءت في وقت يواجه فيه البلدان ظروفاً اقتصادية عصيبة بسبب العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا عقب تفجر الأزمة الأوكرانية من جهة وتعثر تجارة تركيا مع سوريا والعراق من جهة اخرى .
وتتقاطع المواقف الروسية والتركية في كثير من الملفات . فأنقرة حاولت أكثر من مرة اقناع واشنطن بضرورة إقامة ما يسمى بحزام أمني داخل الأراضي السورية لحماية الجماعات الارهابية المسلحة في هذا البلد. كما سبق لأردوغان أن هاجم موسكو لدعمها الرئيس بشار الأسد وإعتراضها عبر الفيتو في مجلس الأمن الدولي على اقامة منطقة حظر جوي في شمال سوريا. كما المحت موسكو مراراً الى ان تركيا سمحت لآلاف المتطرفين من جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز بالمرور عبر أراضيها الى سوريا والإنضمام الى " داعش" و" النصرة " وغيرها من التنظيمات الارهابية.
وتعتقد موسكو بأن الانتخابات الرئاسية السورية هي التي حددت بقاء الأسد رئيساً للبلاد وتنظر الى تركيا في ذات الوقت على أنها تمثل محطة عبور وتقديم الدعم اللوجستيي للجماعات المسلحة في سوريا وكل الوقائع والشواهد على الارض تثبت ذلك وان كانت تركيا تنكره رسميا.
وتعتبر روسيا مهمة مكافحة الإرهاب الذي يهدد امن واستقرار سوريا، أولوية، وتنوه الى أن المسؤولية الأساسية في محاربة الإرهابيين تقع على عاتق الحكومة السورية، ومن دون التنسيق معها لن تتحقق النتائج المرجوة. مشددة في الوقت نفسه على استحالة محاربة الإرهاب بفاعلية من غير الالتزام المبدئي بأسس القانون الدولي، وفي مقدمتها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
ويرى المراقبون ان زيارة بوتين الى أنقرة تأتي في اطار توجيه التحذيرات لتركيا لئلا تلعب بالنار في مناطق النفوذ الروسي والتشديد على أن بلاده تنظر الى سوريا على انها خط احمر ولن تتركها لوحدها في مقابل الهجمة الغربية والعصابات الارهابية ، وهذا الامر اكده بوتين ايضا قبل نحو سنتين خلال توجهه الى الاراضي الفلسطينية المحتلة في ذروة الحرب على سوريا عندما كان الغرب يخطط لضربها عسكرياً بحجة استخدام الأسلحة الكيماوية، في سيناريو مشابه لذرائع الحرب على العراق.
والمتابع لتصريحات الرئيس التركي عن "اسرائيل" وعلاقته بامريكا ، يرى فجوة كبيرة بين ما يقولة وبين ما يفعله ، ففي آخر خطاب ألقاه في 26 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي أمام مجموعة من رجال الاعمال في انقرة ، تحدث اردوغان بلهجة أراد أن يوحي من خلالها انه يتحدى امريكا وانه يعارض سياستها في المنطقة ، وهو لا يقصد طبعا سياستها الداعمة كليا لاسرائيل ، بل سياستها التي لا تتدخل عسكريا لاسقاط حكومة بشار الاسد وتفتيت سوريا وتقسيمها بين الجيش التركي والمجموعات الارهابية التي تراهن عليها بعض الدول الغربية وتتناغم معها وتشجعها رغم ادعائها في الظاهر بغير ذلك.
ولكن وبعيدا عن خطابات اردوغان وبنظرة سريعة لعلاقته بامريكا و"اسرائيل" نجد عمليا ان انقرة قد وضعت 26 قاعدة عسكرية باختيار الجيش الامريكي منتشرة في الاراضي التركية بينها قاعدة انجرليك وهي من أضخم القواعد الجوية للحلف الأطلسى وقاعدة بيرنكيك شمال ديار بكر المخصصة للإنذارات المبكرة وقاعدة الإسكندرونة القريبة من الحدود السورية . ومازال اردوغان ينفذ بنود الاتفاقية الامنية والعسكرية الموقعة بين تركيا و"اسرائيل" عام ِِِ1996 ، والتي تطورت الى شراكة استراتيجية منحت انقرة بموجبها شركات الأسلحة الإسرائيلية عقودا معلنة وسرية لتطوير الدبابات M60 وتحديث المقاتلات «إف-16» و«إف-5» وبيع طائرات
دون طيار. وكل هذا التطور الملفت، حصل بعد حادثة الاعتداء على سفينة «مرمرة»، التي كانت ضمن «أسطول الحرية»، التي قُتل على متنها تسعة أتراك في 31 أيار العام 2010 ، وبعد الاهانة المدوية للسفير التركي في تل ابيب من قبل وزارة الخارجية الاسرائيلية .
وتجدر الاشارة ايضاً الى ان الموقف الروسي يختلف تماما عن موقف تركيا حول عودة القرم الى روسيا، وبعض المشاكل على الساحة الاوروبية ومدى تورطها بالسياسة الاميركية في الشرق الاوسط التي تصطدم مع السياسة الروسية في هذه المنطقة . فعلى الصعيد الدولي تنظر موسكو الى تحركات انقرة بأنها تشكل خطراً على مصالحها وأمنها القومي خصوصاً مواقفها بشأن القضية الاوكرانية وتأييدها للحظر الاقتصادي الذي فرضه الناتو على روسيا، في وقت ترى فيه تركيا ان هذه السياسة تمهد لها الارضية لتعزيز مواقفها في آسيا الوسطى والقوقاز .
ومن جانب آخر يرى المراقبون ان زيارة بوتين الى انقرة التي شارك خلالها في اجتماع مجلس التعاون الروسي - التركي بهدف توسيع التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والطاقة وغزو الفضاء وبناء مفاعل نووي جنوبي تركيا، تأتي في اطار التقدم الروسي في مختلف مناطق النفوذ الاميركي لاسيما في الشرق الاوسط .
وفي المحصلة ومن خلال قراءة اهداف زيارة بوتين الى تركيا يمكن القول بأن الاخيرة باتت لا ترفض من يمد اليد لانتشالها من ورطة تدخلها في سوريا بشكل يحفظ ماء وجهها وهو امر بديهي في التعامل بين الدول الكبرى والدول الاخرى .