الوقت - في السنوات الأخيرة، تعرض حل الدولتين، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع كأفضل تسوية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لضغوط متزايدة بفعل المستجدات السياسية والأمنية، غير أن التحولات الدبلوماسية الأخيرة تشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى، من خلال ضغوط مباشرة ومقايضات استراتيجية، إلى تحييد هذا الحل نهائيًا من الأجندة الدولية والعربية، واستبداله بمقاربات اقتصادية وإنسانية لا تتضمن أي التزامات سياسية تجاه الفلسطينيين.
في هذا السياق، تلعب السعودية دورًا محوريًا في هذه المرحلة، إذ تبدو في قلب الضغوط الأمريكية، حيث تحاول واشنطن إقناع الرياض بالتخلي عن دعمها التقليدي لحل الدولتين مقابل تقديم تنازلات لها في ملفات إقليمية أخرى، لكن هل ستخضع المملكة لهذه الضغوط، أم إنها ستثبت موقفها الراسخ في دعم القضية الفلسطينية؟
تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إعادة رسم الأولويات العربية، بحيث يصبح التركيز منصبًا على الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة فقط، بينما يتم استبعاد أي نقاش حول مستقبل الضفة الغربية أو قيام دولة فلسطينية مستقلة.
تشير التقارير إلى أن واشنطن تحاول فرض معادلة جديدة على الدول العربية، تقوم على مقايضة تخفيف التصعيد الأمريكي ضد تهجير سكان غزة بخطة عربية تتجاهل أي مطالب سياسية فلسطينية، وتكتفي بتقديم حلول إنسانية وإغاثية.
يتضح هذا النهج من خلال الضغوط الدبلوماسية المكثفة التي تمارسها الإدارة الأمريكية عبر مسؤولين بارزين مثل المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف ووزير الخارجية ماركو روبيو، الذين يكررون في اتصالاتهم مع القادة العرب أن الحديث عن دولة فلسطينية أصبح خارج نطاق الواقع السياسي الدولي.
تعتبر واشنطن أن السعودية تمثل مفتاحًا أساسيًا في إعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، ولذلك، فإنها تحاول دفع الرياض إلى التخلي عن دعمها لحل الدولتين، باعتبار أن ذلك سيساعد في تسريع عمليات التطبيع بين المملكة و"إسرائيل".
تُشير مصادر دبلوماسية إلى أن الأمريكيين يعملون على استغلال المباحثات السعودية-الإسرائيلية كوسيلة ضغط، بحيث يتم تقديم بعض التنازلات للمملكة، مثل التعاون في مشاريع اقتصادية كبرى، مقابل قبولها بعدم إدراج موضوع الدولة الفلسطينية في أي محادثات مستقبلية.
لكن حتى الآن، أظهرت الرياض تماسكًا في موقفها الرافض لمثل هذه الضغوط، حيث أكدت قيادتها مرارًا أن أي تطبيع مع "إسرائيل" يجب أن يكون مشروطًا بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، بما في ذلك قيام دولة فلسطينية مستقلة.
الموقف السعودي: رفض التهجير والتأكيد على حقوق الفلسطينيين
في مواجهة هذه الضغوط، جاء حديث السفير السعودي لدى لندن، خالد بن بندر، ليؤكد على موقف المملكة الثابت تجاه القضية الفلسطينية، ففي مقابلة مع إذاعة LBC البريطانية، قدم السفير ردًا دبلوماسيًا قويًا على المقترحات الأمريكية، حيث شدد على أن الفلسطينيين يجب أن يكونوا أصحاب القرار في أرضهم، وليس أن يتم تهجيرهم لإفساح المجال لمشاريع اقتصادية أمريكية.
أكد السفير السعودي أن المملكة لا تمانع في تطوير قطاع غزة وتحسين بنيته التحتية، لكنها ترفض تمامًا أن يكون ذلك على حساب اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم أو التنازل عن حقهم في السيادة، كما أوضح أن أي حل مستقبلي للصراع يجب أن يقوم على أساس حل الدولتين، وفق حدود عام 1967، مع القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.
إلى جانب الدوافع السياسية، هناك شكوك متزايدة حول وجود أجندة اقتصادية أمريكية خفية وراء التركيز المفاجئ على قطاع غزة.
تشير تقارير عديدة إلى أن غزة تحتوي على احتياطيات ضخمة من الغاز والنفط، وهو ما قد يكون أحد الأسباب الحقيقية وراء الاهتمام الأمريكي المتزايد بها، فقد لوحظ أن واشنطن تتعامل مع غزة باعتبارها أصلًا اقتصاديًا يمكن استغلاله، وليس فقط كمنطقة نزاع سياسي وإنساني.
يرى بعض المحللين أن الولايات المتحدة و"إسرائيل" تحاولان خلق وضع يسمح لهما بالتحكم في موارد القطاع، بينما يتم في الوقت ذاته توسيع الاستيطان في الضفة الغربية والتوسع الإسرائيلي شمالًا في الأراضي السورية واللبنانية.
تشير مصادر دبلوماسية إلى أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا كبيرة على الدول العربية لضمان أن تكون القمم العربية المقبلة منصبة فقط على قضايا إعادة إعمار غزة، دون أي حديث عن الدولة الفلسطينية.
في حال تمكنت واشنطن من فرض هذه الرؤية على الدول العربية، فسيكون ذلك بمثابة ضربة قاسية لحل الدولتين، حيث سيتم تحويل القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى مجرد ملف إنساني يمكن التعامل معه عبر المساعدات المالية والاقتصادية فقط.
يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كانت الدول العربية قادرة على مواجهة هذه الضغوط، أم إن الانقسامات الداخلية ستسمح بتمرير الأجندة الأمريكية؟
حتى الآن، أظهرت بعض الدول، مثل السعودية والأردن، تمسكًا بموقفها الداعم لحل الدولتين، لكن التحدي الحقيقي سيكون في القدرة على توحيد الصف العربي ومنع فرض رؤية أمريكية جديدة على المنطقة.
في ظل الضغوط والمقايضات، يبدو أن الإدارة الأمريكية تحاول إعادة تشكيل مستقبل القضية الفلسطينية وفق مصالحها الخاصة، دون اعتبار للحقوق التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني.
لكن في المقابل، هناك أصوات عربية، وعلى رأسها السعودية، ترفض هذه الضغوط، وتصر على أن حل الدولتين ليس مجرد خيار تفاوضي، بل هو حق تاريخي لا يمكن التخلي عنه.
ما ستشهده المرحلة المقبلة سيحدد ما إذا كانت الدول العربية ستنجح في الدفاع عن هذا الحق، أم إن الحلول المؤقتة والصفقات السياسية ستفرض واقعًا جديدًا على المنطقة، في جميع الأحوال، يبقى الرهان الأكبر على وحدة الصف العربي، وعدم السماح بطمس القضية الفلسطينية تحت غطاء إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية.