الوقت - في خضم القرارات المثيرة للجدل التي اتخذها ترامب عقب عودته إلى البيت الأبيض، أثار مرسومه التنفيذي بتعليق منظومة المساعدات الدولية الأمريكية، موجةً من الاستنكار والتساؤلات في الأوساط الدبلوماسية والسياسية.
يقضي المرسوم الرئاسي الجديد بتجميد مساعدات خارجية تتجاوز قيمتها 60 مليار دولار لمدة تسعين يوماً، ريثما تُجري الحكومة مراجعةً شاملةً لهذا الملف، وفي تطورٍ لافت، ألمح وزير الخارجية ماركو روبيو إلى احتمالية حلِّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، في خطوةٍ قد تُحدث تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية الأمريكية.
وفي رسالة موجهة إلى المشرِّعين، سلَّط روبيو الضوء على ما وصفه بـ"التداخل والازدواجية والتكرار" في عمليات الوكالة، ما أفضى إلى "تضارب في المسار الدبلوماسي والعلاقات الخارجية الأمريكية".
وعقب هذه الرسالة، أرسل ترامب تغريدةً مقتضبةً إلى روبيو يوم الجمعة المنصرم، حملت أمراً صريحاً: "أغلِقها".
من جانبه أدلى إيلون ماسك، عملاق التكنولوجيا وأثرى شخصيات العالم، بتصريحاتٍ مدوية حول مصير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فقد كشف ماسك، الذي يحمل لقب "المستشار الاستثنائي للحكومة"، عن خطةٍ محكمة لتفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID).
وفي حوارٍ صريح أجراه صباح الإثنين، أفصح الملياردير المكلف بإدارة "وزارة الكفاءة الحكومية" عن رؤيةٍ حاسمة، قائلاً: "المنظومة بأكملها تستدعي إعادة النظر جذرياً، محاولات الإصلاح الجزئي لن تُجدي نفعاً… القرار النهائي هو الإنهاء التام".
وفي سياقٍ يكشف عن عمق التنسيق مع البيت الأبيض، أوضح ماسك تفاصيل مشاوراته المتكررة مع الرئيس ترامب: "حرصتُ على التأكد من موقفه مراراً، متسائلاً: "هل قناعتكم راسخة بهذا القرار؟" ليأتي الرد حاسماً وقاطعاً: "بالتأكيد".
بيد أن هذا التحول الاستراتيجي واجه معارضةً قضائيةً صارمةً، حيث أصدرت المحكمة الفيدرالية يوم الجمعة أمراً يوقف تنفيذ القرار، الذي كان سيؤثر على مصير 2700 دبلوماسي ومختص في مهمات خارجية.
ويرى المنتقدون أن هذا التحول الجذري في سياسة المساعدات الخارجية، يحمل في طياته تداعيات عميقة على المكانة العالمية للولايات المتحدة وقوتها الناعمة، فالمساعدات الخارجية، التي طالما شكّلت ركيزةً أساسيةً في المنظومة الدبلوماسية الأمريكية، كانت بمثابة حجر الزاوية في تعزيز النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية.
وتمتد جذور هذه السياسة إلى حقبةٍ تاريخية فارقة، حين وضع الرئيس هاري ترومان حجر الأساس لأول برنامج مساعدات خارجية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مستهدفاً احتواء المدّ الشيوعي في القارة الأوروبية، وبعد عقدٍ من الزمن، جاء جون كينيدي ليؤسس مرکزاً دبلوماسياً جديداً متمثلاً في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، من خلال قانون المساعدات الخارجية.
ومنذ ذلك الحين، ترسخت المساعدات الخارجية كأداةٍ محورية في منظومة القوة الناعمة - ذلك المفهوم الذي صاغه المفكر الاستراتيجي جوزيف ناي في ثمانينيات القرن الماضي، ليصف به القدرة على التأثير في الآخرين وتوجيه دفة الأحداث نحو المسارات المنشودة، دون اللجوء إلى القوة العسكرية.
وفي تعليقٍ يعكس عمق القلق من التوجهات الراهنة، أبدى ناي رؤيةً نقديةً حادةً، مشيراً إلى أن "الرئيس ترامب يفتقر إلى الإدراك العميق لمفهوم القوة الناعمة وأبعادها الاستراتيجية في تشكيل المشهد الدولي".
وأضاف: "تتجلّى القوّة في المقدرة على استمالة الآخرين لتحقيق مآربك، وتنبثق هذه القدرة من ثلاثة منابع رئيسة: إمّا عبر سطوة الإكراه، أو من خلال سخاء المكافأة، أو عن طريق قوة الجاذبية والتأثير - وهو ما يُعرف في الأوساط السياسية بثالوث العصا والجزرة والعسل - غير أن ترامب يفتقر إلى إدراك جوهر سياسة العسل وأبعادها".
وفي سياق تعليقه على التحولات الجذرية وحالة الضبابية المحيطة بمصير برنامج المعونات الخارجية الأمريكية، أبدى تأسفه قائلاً: "نحن إزاء منعطف مؤسف للغاية، يعكس قصوراً جليّاً في فهم مقومات القوة بأبعادها كافة"، وقد حذّر نخبة من كبار المسؤولين السابقين من أن هذه التحولات المفاجئة، من شأنها أن تقوّض أركان السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي.
وفي يوم الأربعاء الفائت، أصدر كريس ميليغان، المستشار السابق للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بياناً لاذعاً يدين فيه قرار ترامب بتجميد المساعدات، مؤكداً أن "كل لحظة تمر في ظل تعليق المساعدات تنال من هيبة أمريكا، وتقوّض دعائم أمننا، وتكبّد خزينتنا خسائر فادحة".
وتشير التقارير الموثّقة إلى أن إدارة ترامب عمدت إلى تقليص المساعدات المالية لكل من غواتيمالا وهندوراس والسلفادور، في محاولة للضغط عليها للحدّ من تدفقات الهجرة، بيد أن هذا النهج أفضى إلى نتائج عكسية تماماً، حيث تفاقمت الأزمات الاقتصادية، ما أدى إلى تعميق الجذور المسبّبة للهجرة، ودفع بموجات متزايدة من طالبي اللجوء نحو الأراضي الأمريكية.
ما هي البلدان الأكثر تأثراً؟
يكشف "المركز العالمي للتنمية" أن الولايات المتحدة، رغم تصدّرها مشهد المانحين الدوليين من حيث حجم المساعدات منذ ستينيات القرن المنصرم، إلا أن عطاءها - قياساً بثرائها - لم يرقَ إلى مستوى السخاء المتوقع، وتُظهر إحصاءات الأمم المتحدة أن المعونات الخارجية الأمريكية، لم تتجاوز حاجز الواحد بالمئة من موازنة الكونغرس للعام المالي 2023.
ويتحمل المواطن الأمريكي دافع الضرائب عبئاً سنوياً متواضعاً نسبياً يبلغ 210 دولارات، في حين يُقتطع من جيبه ما يناهز 2800 دولار لمصلحة النفقات العسكرية، وتنساب هذه الأموال إلى خزائن مُصنّعي الأسلحة الذين يجنون أرباحاً طائلةً من اضطرابات العالم وحروبه، ولا سيما في القارة الأفريقية المثقلة بالفقر والمتعطشة للمساعدات الخارجية.
وقد رصد المركز العالمي للتنمية ثماني دول، من بين 26 دولة تتربع على عرش الفقر العالمي، تستأثر بما يفوق خُمس معونات USAID - وهي تحديداً: جنوب السودان، والصومال، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وليبيريا، وأفغانستان، والسودان، وأوغندا، وإثيوبيا.
تعاني اقتصادات هذه الدول الثماني من الهشاشة، لدرجة أن المساعدات تشكّل نحو 11 بالمئة من مجمل دخلها (وفقاً لمؤشرات الدخل القومي الإجمالي المتاحة لسبع دول منها).
ونظراً لاستحواذ المساعدات الأمريكية على 30 بالمئة من إجمالي المعونات السنوية لهذه الدول، فإن تجميدها قد يُحدث فجوةً تتخطى 3 بالمئة من ناتجها القومي الإجمالي، ما يُنذر بصدمة اقتصادية عميقة الأثر.
ويتزامن هذا مع أداء اقتصادي متواضع للدول منخفضة الدخل، حيث لم يتجاوز نموها 3 بالمئة في 2023، مع توقعات بارتفاع طفيف إلى 3.6 بالمئة في 2024، وستتكبد ثماني دول خسائر فادحة تتراوح بين: جنوب السودان والصومال (9 بالمئة لكل منهما)، وأفغانستان (7 بالمئة)، وسوريا (5 بالمئة)، وليبيريا وجمهورية أفريقيا الوسطى واليمن (4 بالمئة لكل منها)، وأرخبيل ميكرونيزيا (3 بالمئة).
ولئن كان نظام المساعدات الخارجية الأمريكي يُعرف تاريخياً بانحيازه للدول الأشدّ فقراً، إلا أن أوكرانيا - المنخرطة في صراع مع روسيا منذ قرابة ثلاث سنوات - قد تصدرت في الآونة الأخيرة قائمة المستفيدين، متجاوزةً الدول الفقيرة في القارتين الأفريقية والآسيوية.
وفي هذا السياق، يدعو زيلينسكي حلفاءه الأوروبيين إلى تعزيز إنفاقهم الدفاعي بصورة عاجلة لتحصين أمنهم، بينما تُطالب إدارة ترامب دول الناتو بتخصيص 5 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي للشؤون الدفاعية.
فرصة ذهبية لتعزيز المكانة الدولية للصين
في خِضَمّ انحسارٍ ملحوظ للدور الأمريكي في ساحة المساعدات الدولية، تمضي بكين قُدماً في توسيع نطاق استثماراتها الاستراتيجية عبر مبادرة "الحزام والطريق" (BRI) في القارات الثلاث: الأفريقية، واللاتينية، والآسيوية، وقد شهدت الساحة الدولية تحوّلاً لافتاً في ولاءات العديد من الدول التي كانت تدور في الفلك الأمريكي، لتنضوي تحت المظلة الصينية، معمِّقةً ارتباطاتها الاقتصادية والسياسية مع القوة الآسيوية الصاعدة.
وفي خطوةٍ استراتيجية بارزة، تعهدت بكين في خريف العام المنصرم بضخّ استثمارات تتجاوز 50 مليار دولار في القارة الأفريقية على مدى ثلاث سنوات، مع تبنّي سياسة أكثر سخاءً في تقديم المِنَح غير المشروطة مقارنةً بالقروض التقليدية.
وفي مشهدٍ لافت للنظر، ارتفعت أصوات التحذير من العواصم الغربية الحليفة لواشنطن، محذرةً من تداعيات هذا التحول الاستراتيجي، وفي هذا السياق، أدلى وزير الخارجية البريطاني بتصريحٍ جوهري خلال زيارته لكييف، قائلاً: "إن توجهات دونالد ترامب نحو تقليص جذري لموازنة المساعدات الدولية الأمريكية تُمثّل خطأً استراتيجياً جسيماً، يفتح الباب على مصراعيه أمام التمدد الصيني وتعزيز نفوذه العالمي، لقد استغرقنا سنوات طويلة في تشخيص هذا الخلل الاستراتيجي، فالتنمية تظل ركيزةً محوريةً من ركائز القوة الناعمة، وغيابها سيخلق فراغاً استراتيجياً تتسابق الصين وغيرها لملئه".
کذلك، تسود حالة من الإحباط والقلق في أوساط الدول المعتمدة على المظلة الأمريكية - بما فيها حلفاء الناتو في أوروبا الشرقية والشركاء الاستراتيجيون في أفريقيا وآسيا - ما يدفعها نحو البحث عن تحالفات بديلة.
كما أحدث تقلص المساعدات الأمريكية فجوةً تمويليةً في المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، لتسارع الصين وقوى دولية أخرى ذات أجندات مغايرة إلى ملء هذا الفراغ.
ومن المنظور الاقتصادي البحت، كانت برامج المساعدات الخارجية تمثّل أداةً قويةً للشركات الأمريكية في الأسواق الناشئة، وقد أفضى تقليصها إلى إضعاف القدرة التنافسية لهذه الشركات في قطاعات استراتيجية، ما مهّد الطريق لهيمنة صينية متزايدة.
وفي المحصلة، مثّلت المساعدات الخارجية على مرّ العقود أداةً استراتيجيةً للدبلوماسية الأمريكية في نسج التحالفات، وترسيخ الاستقرار وتعزيز المصالح الأمريكية، وبينما تُسوّق إدارة ترامب خفض المساعدات كإجراء اقتصادي يتماشى مع عقيدة "أمريكا أولاً"، فإن تداعياته الاستراتيجية ستُفضي حتماً إلى تآكل النفوذ الأمريكي وصعود نجم المنافسين الدوليين، وفي مقدمتهم التنين الصيني.