الوقت - منذ اندلاع ألسنة اللهب في لوس أنجلوس، برز اتجاه لافت في الفضاء الرقمي، حيث انخرط مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما من المجتمعات الإسلامية، في عقد مقارنات بين المشهد المأساوي في قطاع غزة المنكوب، والوضع الكارثي الذي آلت إليه مدينة لوس أنجلوس المنکوبة.
وقد تصدرت عبارة "هذه ليست غزة… إنها لوس أنجلوس" المشهد الإعلامي، مصحوبةً بصورٍ صادمة تُظهر كيف استحالت أحياء المدينة الأمريكية، في غضون أيام معدودة، إلى مناظر تحاكي الدمار الذي حلّ بغزة، وفي مفارقة مؤلمة، بات المراقبون يرصدون أوجه التشابه بين نزوح مئات الآلاف من سكان لوس أنجلوس هرباً من الحرائق، والتهجير القسري الذي يتعرض له أهالي غزة في ظل الظروف المأساوية الراهنة.
المقاربات المتباينة لمستخدمي وسائل التواصل
في خضم التفاعلات المتسارعة في الفضاء الرقمي العالمي، تتبلور رؤى متعددة الأبعاد حول العلاقة الجدلية بين مأساة غزة وحرائق لوس أنجلوس، تتمحور في اتجاهات رئيسية تستحق التأمل والتحليل:
أولاً: ثمن الدعم للکيان الصهيوني
تتبنى شريحة من المحللين والمراقبين رؤية عميقة مفادها بأن ما يجري في لوس أنجلوس يمثل تجلياً للقانون الكوني في العدالة الإلهية، حيث تدفع الولايات المتحدة ثمناً باهظاً نظير دعمها اللامحدود للممارسات الصهيونية في غزة، وتستند هذه الرؤية، بتنوعاتها الفكرية والعقائدية، إلى مفهوم متجذر في التراث الفارسي العريق يُعرف بـ "جزاء الأعمال".
ثانياً: فرضية الحريق المتعمد
يطرح تيار فكري آخر تحليلاً أكثر عمقاً، مستنداً إلى سلسلة من المؤشرات والأحداث غير الاعتيادية، ليخلص إلى أن هذه الحرائق مُدبرة بعناية، ويستشهد أصحاب هذا الطرح بالإجراءات المريبة التي اتخذتها شركات التأمين في لوس أنجلوس، حيث أقدمت على إلغاء وثائق تأمين العديد من المنشآت في كاليفورنيا بشكل أحادي ومفاجئ.
وينقسم المتبنون لهذه النظرية إلى معسكرين رئيسيين:
المعسكر الأول: يرى في إدارة "بايدن" المحرك الرئيسي لهذه الأحداث، في محاولة لإرباك "ترامب" في المشهد السياسي، مستهدفةً أغنى ولايات الاتحاد الفيدرالي في توقيت استراتيجي حساس.
المعسكر الثاني: يضع "ترامب" في دائرة الاتهام، معتبراً أنه العقل المدبر لهذه الحرائق، في إطار استراتيجية متكاملة لتقويض شرعية "بايدن" والحزب الديمقراطي، تمهيداً لحملة سياسية واسعة النطاق.
وفي خضم هذا الجدل الفكري المحتدم، يبرز سؤال محوري يستدعي التأمل العميق: ما هي الدوافع الحقيقية وراء هذا الربط المنهجي في الوعي العالمي بين مأساة غزة وحرائق لوس أنجلوس؟ تتجلى الإجابة عبر ثلاثة مسارات تحليلية متمايزة:
المقاربة الأولى: رؤية المسلمين ومناصري القضية الفلسطينية
تبرز المقارنة بين مأساة غزة وحرائق لوس أنجلوس من منظور عقائدي وفكري عميق الجذور، وتتجلى هذه المقاربة في رؤية تحليلية متكاملة تستند إلى أسس إيمانية راسخة، تؤكد حتمية زوال الظلم وانهيار صروح الباطل، مهما علت وتجبرت.
ويرى المفكرون والمحللون المسلمون، في مقاربتهم للظاهرة، أن ألسنة اللهب المتصاعدة من لوس أنجلوس، ليست سوى تجلٍ طبيعي للسنن الكونية، وثمرة حتمية للدعم الأمريكي غير المحدود للكيان الصهيوني في عدوانه على غزة، وعليه، فإن المقارنة بين المشهدين - مشهد المدينة الأمريكية المحترقة ومشهد غزة المنكوبة - تأتي في سياق تأصيل وترسيخ هذه الرؤية العقائدية.
وتكتسب هذه المقاربة الفكرية أهميةً استثنائيةً في خضم الصراع الحضاري الراهن، إذ تقدم تفسيراً عميقاً يتجاوز التحليلات السطحية للأحداث، ويؤسس لفهم متكامل يربط بين الأسباب والنتائج في إطار منظومة عقائدية شاملة، تؤكد أن عاقبة الظلم وخيمة، وأن سنن الله في الكون ماضية لا تتخلف، وأن النصر للمستضعفين حتمية تاريخية لا مراء فيها.
المقاربة الثانية: منظور المعارضين الأمريكيين
تتبلور رؤية شريحة جوهرية من النسيج المجتمعي الأمريكي - وخاصة المناهضين لسياسات الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني - في قراءة لأزمة حرائق لوس أنجلوس وتداعياتها، إذ يرون، عبر منظور تحليلي، أن جذور الأزمة تضرب في عمق السياسات الداخلية المتخبطة، والإهمال المتعمد للبنية التحتية الحيوية.
ويؤسس هؤلاء المحللون رؤيتهم على معطيات دقيقة ومؤشرات صارخة، تتجلى في التدفق المستمر للدعم السياسي والمالي والعسكري نحو الكيان الصهيوني، مقروناً بقرارات غير محسوبة كإرسال معدات الإطفاء إلى أوكرانيا، وهذا النهج قد أفضى، حسب تحليلهم، إلى إهمال جسيم للاحتياجات المحلية الملحة، وتحويل مسار الموازنات من خدمة المواطن الأمريكي إلى تأجيج الصراعات العالمية.
ويشير المحللون، في نبرة تنطوي على مرارة عميقة، إلى أن الموارد المالية الضخمة التي كان يمكن توظيفها في تحديث منظومات مكافحة الحرائق وتنفيذ الإجراءات الوقائية الحيوية - كإزالة الأعشاب الجافة - قد تم توجيهها نحو تمويل صفقات التسليح للكيان الصهيوني والحكومة الأوكرانية.
وفي سياق متصل، يؤكد خبراء الفضاء الرقمي أن تحويل جزء جوهري من معدات الإطفاء المتطورة خارج الولايات المتحدة، قد أفضى إلى إضعاف القدرات التشغيلية لفرق الإطفاء الأمريكية في مواجهة الكارثة، كما يلفتون الأنظار إلى أن انتشار الأعشاب الجافة - التي كان بالإمكان معالجتها لولا تحويل الميزانيات المخصصة نحو دعم الكيان الصهيوني - قد ساهم بشكل دراماتيكي في التمدد السريع وغير المنضبط للحرائق.
المقاربة الثالثة: المنظور العالمي
يتبلور تيار فكري عالمي يقدّم قراءةً لظاهرة حرائق الولايات المتحدة، مستنداً إلى تحليل تاريخي لدور واشنطن في تأجيج الصراعات عبر الحقب المختلفة، ويخلص هذا التيار إلى أن السياسات الأمريكية، وخاصة دعمها اللامحدود للكيان الصهيوني، قد تحولت إلى عامل رئيسي في تقويض الاستقرار العالمي والإقليمي.
وتكتسب المقارنة بين حرائق لوس أنجلوس وكارثة غزة أبعاداً عميقةً، إذ تكشف بجلاء كيف أن الدعم الأمريكي غير المشروط للكيان الصهيوني، لم يقتصر تأثيره المدمر على زعزعة استقرار المنطقة والعالم فحسب، بل امتد ليضرب في صميم الاستقرار الداخلي للولايات المتحدة ذاتها، متجلياً في عجزها الصارخ عن مواجهة الكارثة البيئية المستعرة في أراضيها.
ويرى المحللون أن هذا العجز هو نتيجة حتمية لسياسات متهورة سهّلت ارتكاب الجرائم الصهيونية في المنطقة، وقد تجسد هذا النهج في مسارين متوازيين: تدفق مستمر للأسلحة والمعدات العسكرية، واستخدام متكرر لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإجهاض أي محاولة لوقف الإبادة الجماعية في غزة.
بل تجاوزت واشنطن كل الأعراف الدولية حين أقدمت، عبر تشريع في الكونغرس، على محاولة فرض عقوبات على محكمة لاهاي - التي أدانت "نتنياهو" ووزير حربه السابق بارتكاب جرائم حرب - في مسعى لإجهاض حتى هذا الإجراء القضائي الدولي المتواضع.
وفي تقدير المراقبين الدوليين، فإن الولايات المتحدة قد فقدت مصداقيتها كضامن للسلام العالمي، وتحولت، عبر سياساتها المتهورة - وخاصة في غرب آسيا - إلى عامل تقويض للاستقرار العالمي، وقد انعكست هذه السياسات سلباً على الداخل الأمريكي، حيث باتت واشنطن عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ومعالجة القضايا الاجتماعية الملحة، ومكافحة الفقر المتفشي، والاستجابة للتحديات البيئية المتصاعدة.
وهكذا تتجلى المفارقة، ألا وهي أن القوة العظمى التي تدّعي قيادة العالم، باتت عاجزةً حتى عن حماية مواطنيها من الكوارث الطبيعية.