الوقت - شهدت العاصمة التركية أنقرة يوم الأربعاء الموافق الـ13 من ديسمبر 2024، حدثًا دبلوماسيًا استثنائيًا، تمثل في التوقيع على اتفاق "المصالحة التاريخية" بين جمهورية الصومال الفيدرالية وإثيوبيا، برعاية الوساطة التركية.
هذا التطور يأتي في أعقاب توترات حادة بين البلدين بعد توقيع أديس أبابا في يناير 2024 اتفاقًا مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، ما أثار قلقًا واسعًا في مقديشو ونتج عنه تصعيد دبلوماسي حاد، وبينما يعتبر هذا الاتفاق خطوة نحو تهدئة الأوضاع، فإنه يشكل أيضًا محطّة جديدة في مساعي تركيا لتوسيع نفوذها في منطقة القرن الأفريقي، والتي تشهد تغيّرات جيوسياسية مهمة.
التوترات بين الصومال وإثيوبيا
في وقت سابق من هذا العام، أبرمت إثيوبيا اتفاقًا مع إقليم أرض الصومال، الذي يسعى إلى الانفصال منذ أكثر من ثلاثة عقود، الاتفاق يسمح لأديس أبابا باستخدام سواحل الإقليم على خليج عدن لأغراض تجارية وعسكرية، هذا الاتفاق أثار غضب الحكومة الصومالية، التي اعتبرته انتهاكًا لسيادتها، فالصومال كانت تعتبر أن أرض الصومال جزء لا يتجزأ من أراضيها، وبالتالي فإن أي اتفاقات بين إثيوبيا والإقليم الانفصالي تعد بمثابة "اعتداء سافر" على السيادة الصومالية.
ردًا على هذه الخطوة، شهدت العلاقات بين الصومال وإثيوبيا توترًا كبيرًا، حيث قامت مقديشو بإبعاد السفير الإثيوبي، وأغلقت القنصليات الإثيوبية في المناطق المتنازع عليها مثل أرض الصومال وبونتلاند.
في هذا السياق، كان من الواضح أن التحركات الإقليمية والدولية قد تتسارع من أجل تهدئة الأوضاع، أو على الأقل وضع خارطة طريق لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة.
الدور التركي
يُعدّ هذا الاتفاق التركي بين الصومال وإثيوبيا، الذي يتم التوصل إليه عبر وساطة أنقرة، جزءًا من سياسة تركيا الاستراتيجية الهادفة إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا، وهو امتداد لجهود تركيا المتواصلة في دعم الصومال منذ سنوات، ففي عام 2011، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أول زعيم غير أفريقي يزور الصومال بعد سنوات من الحرب الأهلية، حيث تم إبرام سلسلة من الاتفاقيات بين البلدين، منذ ذلك الحين، تطورت العلاقات التركية الصومالية بشكل سريع، وخاصة في المجالات العسكرية والاقتصادية.
من أبرز الملامح في التعاون التركي الصومالي هو الدعم التركي في مجال الأمن، حيث أنشأت تركيا في الصومال قاعدة "تركسوم" العسكرية، وهي الأكبر خارج البلاد، والتي تقوم بتدريب الجيش الصومالي وتقديم المعدات اللازمة لمكافحة القرصنة في خليج عدن، كما أن تركيا، من خلال دعمها العسكري، تسعى إلى ملء الفراغ الذي قد تتركه قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي بعد انسحابها بنهاية العام الجاري.
تفاصيل الاتفاق الدفاعي والاقتصادي
الاتفاق الذي تم التوقيع عليه مؤخرًا بين الصومال وتركيا يشمل العديد من الجوانب الأمنية والاقتصادية، إضافة إلى التعاون في المجال البيئي، وأهم ما يميز الاتفاق هو التعاون الدفاعي المتين، حيث ستقوم تركيا بتزويد الصومال بتدريب عسكري وتقنيات متقدمة، إلى جانب إرسال قوات بحرية تركية لحماية سواحل الصومال التي تمتد على 3 آلاف كيلومتر، من كينيا إلى جيبوتي، هذا الوجود العسكري التركي في المياه الإقليمية للصومال يعزز من قدرات الدفاع البحري الصومالي ويُعتبر خطوة مهمة لتأمين تلك السواحل الحيوية.
بالإضافة إلى ذلك، يشمل الاتفاق أيضًا التعاون في استكشاف الموارد البحرية والنفطية في المياه الصومالية، ففي هذا السياق، قامت تركيا بتطوير سفينة بحث واكتشاف "الريس عروج" التي ستعمل في المياه الصومالية خلال الأشهر القادمة لاستكشاف النفط والغاز، هذا التعاون، من خلال الشركات التركية في قطاع الطاقة، سيساعد الصومال على استثمار مواردها الطبيعية بشكل أكثر فعالية ويساهم في تعزيز اقتصادها الوطني.
أبعاد المصالحة والتحديات الإقليمية
لا شك أن الوساطة التركية بين الصومال وإثيوبيا تحمل في طياتها العديد من الأبعاد الإقليمية والدولية، فمن جانب، تعمل تركيا على تعميق علاقاتها مع الصومال وإثيوبيا على حد سواء، وهو ما يعكس توجه أنقرة الساعي إلى أن تصبح لاعبًا أساسيًا في المنطقة، لكن من جانب آخر، فإن هذا التحرك يعكس محاولة من تركيا لتعزيز مكانتها في مواجهة التنافسات الإقليمية، حيث أصبحت منطقة القرن الإفريقي تمثل ساحة لتنافس القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، الصين، وروسيا.
الخطوة التركية تأتي أيضًا في وقت حساس بالنسبة لإثيوبيا التي تحاول التوسع للوصول إلى مياه البحر الأحمر، وهو ما أُثير بشأنه الكثير من القلق الصومالي، لا شك أن هذا التوسع الإثيوبي على حساب أرض الصومال يتناقض مع مصالح مقديشو التي تسعى إلى الحفاظ على وحدة أراضيها ومنع أي تحركات انفصالية، ولذلك، فإن إتمام المصالحة بين الصومال وإثيوبيا برعاية تركيا يُعدّ خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تهدئة التوترات وحفظ استقرار المنطقة.
التعاون الإقليمي والمنافسات الدولية
من اللافت أن تركيا لا تعمل في منطقة القرن الإفريقي فقط، بل تسعى لتوسيع حضورها في مناطق أخرى من إفريقيا، فعلى سبيل المثال، أسست تركيا علاقات استراتيجية مع دول الساحل الإفريقي مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث قدمت دعمًا عسكريًا في سياق الصراع القائم في تلك المناطق، ومن جانب آخر، تحاول روسيا والصين أيضًا توسيع نفوذهما في القارة، ما يزيد من تعقيد التنافس على المصالح الاستراتيجية في هذه المنطقة.
في هذا السياق، يتوقع أن تتزايد التدخلات الخارجية في القرن الإفريقي، ولا سيما مع تصاعد التوترات في دول مثل السودان، ووجود قوى دولية تتسارع في سعيها لتوسيع نفوذها في الممرات المائية الاستراتيجية مثل البحر الأحمر، هذه المنافسة قد تؤدي إلى مزيد من التحالفات والتحركات السياسية والعسكرية بين القوى الإقليمية والدولية، ما يخلق بيئة معقدة للسياسة في القرن الإفريقي.
وفي الختام يمكن القول إن "المصالحة التاريخية" بين الصومال وإثيوبيا، تحت الوساطة التركية، ليست مجرد خطوة لتسوية الخلافات بين الجارتين، بل هي جزء من صورة أكبر تكشف عن تحول في السياسة الإقليمية للقرن الإفريقي، وفي وقت يتزايد فيه التنافس الدولي على النفوذ في هذه المنطقة الحيوية، تتجلى تركيا كوسيط رئيسي يسعى إلى تحقيق توازن في علاقاته مع جميع الأطراف المعنية، سواء كان ذلك في التعامل مع إثيوبيا، الصومال، أو القوى الإقليمية والدولية الكبرى.
المستقبل القريب سيكشف ما إذا كان هذا التحرك سيسهم في استقرار المنطقة أم إنه سيعزز من التوترات القائمة، لكن، لا شك أن الدور التركي في إفريقيا، وعلى الأخص في القرن الإفريقي، في تصاعد مستمر، وهو ما يجعل من هذا الاتفاق محطة فارقة في تاريخ العلاقات الإقليمية والدولية.