الوقت - في تطور دراماتيكي يُلقي بظلاله على المشهد الجيوسياسي في المنطقة، شهدت الساحة السورية - التي كانت تنعم بفترة من الاستقرار النسبي - تحولاً جذرياً إثر هجوم مباغت نفذته جبهة موحدة من التنظيمات الإرهابية في الشمال الغربي للبلاد.
وقد أفضى هذا التصعيد العسكري غير المسبوق، المتمثل في توغل سريع نحو محافظتي حلب وحماة والاستيلاء على مدينة حلب الاستراتيجية، إلى تشكيل معادلة أمنية معقدة تُهدد بتقويض استقرار الدولة السورية، حتى باتت وسائل الإعلام المناوئة تُلوّح بعودة شبح الحرب الأهلية إلى المشهد السوري من جديد.
في خطوة دبلوماسية بالغة الأهمية تتزامن مع التطورات الميدانية المتسارعة، باشر السيد عباس عراقجي، وزير الخارجية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، جولةً إقليميةً حساسةً، مستهلاً إياها بزيارة إلى العاصمة السورية دمشق، وتشير المعطيات الدبلوماسية إلى أن المحطة التالية في أجندة الوزير الإيراني ستكون العاصمة التركية أنقرة، مع ترجيحات قوية بامتداد الجولة إلى عاصمة إقليمية ثالثة لم يتم الكشف عن هويتها بعد.
وفي إطار تغطية شاملة لهذا التحرك الدبلوماسي المحوري، أجرى موقع "الوقت" التحليلي حواراً مع المحلل والخبير في شؤون غرب آسيا، السيد هادي سيد أفقهي، لاستجلاء الأبعاد الجيوسياسية لهذه الزيارة وتحليل مساراتها المحتملة، مع تقديم قراءة استشرافية لمستقبل الأزمة الراهنة.
زيارة عراقجي لتعزيز موقف سوريا
استهلّ الخبير المتخصص في الشؤون الجيوسياسية لغرب آسيا، تصريحاته بشرح دقيق للأبعاد والدلالات الاستراتيجية للزيارة الدبلوماسية رفيعة المستوى التي قام بها وزير الخارجية الإيراني إلى العاصمة السورية، حيث أوضح في معرض تحليله:
"أجرى السيد عراقجي، قبل شهر من الآن، زيارةً ذات أهمية استراتيجية إلى سوريا، حيث عقد سلسلةً من اللقاءات الدبلوماسية رفيعة المستوى مع كبار صناع القرار السوريين، شملت وزير الخارجية ورئيس المجلس التشريعي، وتُوجت بلقاء قمة مع الرئيس بشار الأسد، أثمرت عن مباحثات بالغة الأهمية.
وفي تطور لافت، تبع ذلك زيارة وزير الدفاع الإيراني إلى دمشق، ما يؤشر بوضوح إلى حساسية المرحلة وخطورة التحديات الراهنة، وفي سياق متصل، قام السيد لاريجاني بمهمة دبلوماسية خاصة، حاملاً رسالةً من القيادة الإيرانية العليا إلى الرئيس السوري، تلاها زيارة وزير الخارجية السوري إلى طهران، إن هذا التواتر الدبلوماسي المكثف، وما تخلله من لقاءات رفيعة المستوى ومشاورات استراتيجية ومباحثات معمقة، يعكس بجلاء استشعاراً عميقاً بتحديات أمنية واستراتيجية تستدعي التنسيق والتشاور المكثف على أعلى المستويات.
كانت التقديرات الاستخباراتية والتحليلات الأمنية تشير إلى احتمالية قيام الكيان الصهيوني باستحداث جبهة عمليات ثانوية، تستهدف في جوهرها تقويض خطوط الإمداد الاستراتيجية الممتدة من العمق السوري إلى الساحة اللبنانية، وعرقلة منظومة الدعم اللوجستي والتجهيزات العسكرية المتجهة إلى حزب الله، ويأتي هذا في إطار استراتيجية متعددة الأبعاد تهدف إلى إرباك المشهد الاستراتيجي السوري، وممارسة ضغوط دبلوماسية وعسكرية على القيادة السورية، ودفع الرئيس بشار الأسد نحو تبني سياسة ضبط النفس، وتقليص مستويات الدعم والتنسيق إلى حدودها الدنيا.
للأسف، تحققت هذه السيناريوهات على أرض الواقع من خلال عملية عسكرية خاطفة ومباغتة، ما يستدعي تفعيل آليات الاستجابة السريعة والتدابير الاحترازية العاجلة، وتجدر الإشارة إلى أن القوات المسلحة السورية تخوض عمليات عسكرية متواصلة منذ عام 2011، وتواجه تحديات متعددة الجبهات تتمثل في استمرار التوتر في محافظة إدلب، والوجود العسكري الأمريكي في شرق الفرات، والاعتداءات الصهيونية المتكررة على الأراضي السورية.
وفي سياق تحليل الأهداف الاستراتيجية للزيارة الدبلوماسية الراهنة، نشهد تصاعداً خطيراً في التهديدات التي تستهدف المواقع الاستراتيجية السورية في حلب، مع امتداد دائرة الخطر لتشمل محافظتي حماة وحلب خلال الأيام الأربعة أو الخمسة المنصرمة.
وعليه، فإننا نقف اليوم على مفترق طرقٍ حاسم يستلزم تسارعاً محسوباً في إيقاع اللقاءات الدبلوماسية، وتكثيفاً منهجياً للتنسيق، وتعزيزاً استراتيجياً للدعم المطلوب، مع الحرص الفائق على صون "الميدان" من أي تداعيات سلبية، ذلك أن الميدان يُشكّل الركيزة الأساسية التي تستند إليها الدبلوماسية في تحركاتها، وهو ما يتناغم بشكل جوهري مع الرؤية الاستراتيجية للدكتور عراقجي، الذي يؤكد أن تعاظم القوة الميدانية يُفضي حتماً إلى تعزيز الموقف التفاوضي، وتوسيع نطاق المناورة في فرض الشروط والمتطلبات.
وفي هذا السياق، تأتي هذه الزيارة لتحقيق غايتين رئيسيتين: أولاهما إجراء تقييم شامل للمشهد الميداني، وثانيتهما الوقوف بشكل مباشر على رؤية القيادة السورية، ممثلةً بالرئيس بشار الأسد، فيما يتعلق باحتياجاتهم ومتطلبات الدعم المنشود، كما يُرتقب أن تشمل الزيارة دراسةً معمقةً لتقارير السفير الإيراني المعتمد في دمشق، إلى جانب تقييم شامل لرؤى وتقديرات المسؤولين في المؤسستين العسكرية والأمنية".
الهجمات الإرهابية تُنفَّذ تحت المظلة التركية؛ أنقرة تتنصل من التزاماتها في مسار أستانة
ويستطرد هذا الخبير المتخصص في شؤون غرب آسيا، موضحاً دوافع زيارة عراقجي إلى أنقرة، قائلاً:
"اتجه السيد عراقجي مباشرةً إلی العاصمة التركية، ولعل المشهد السياسي يستدعي طرح سؤال محوري: ما الذي يجعل من أنقرة محطةً استراتيجيةً في هذا التوقيت تحديداً؟ تكمن الإجابة في التعهد التركي الصريح عام 2020 بإرساء دعائم وقف إطلاق النار في الأراضي السورية، والحدّ من أي تحركات أو تقدم للعناصر المصنّفة إرهابياً، غير أن المفارقة الدبلوماسية تضع أنقرة اليوم في موضع المساءلة الأولى فيما يتعلق بملف حلب، إذ تجاوزت التزاماتها في "اتفاق أستانة" بشكل يتنافى مع الأعراف الدبلوماسية.
وفي سياق متصل، يبرز تساؤل آخر: أليست هذه العناصر المصنّفة إرهابياً متمركزة في الأراضي التركية أو في المناطق السورية الخاضعة للنفوذ التركي؟ فالواقع الميداني يُظهر أن السيطرة على حلب ومحافظة إدلب بأكملها تقع تحت المظلة التركية، التي تتولى إدارة هذه العناصر وتوجيه تحركاتها.
إن محاولات التنصل من المسؤولية عبر ادعاءات عدم العلم أو التدخل، تمثّل انتهاكاً صارخاً للمنطق الدبلوماسي، وتعكس ازدواجيةً غير مسبوقة في المواقف السياسية، وما يثير الاستغراب أن تصدر مثل هذه التصريحات عن مسؤولين رفيعي المستوى، في تجاهل واضح للحقائق الميدانية والمعطيات الاستخباراتية.
فالوقائع الملموسة تؤكد أن جميع هذه العناصر تتخذ من الأراضي التركية مركزاً لعملياتها، حيث تتلقى التدريبات المتخصصة، وتحظى بالدعم اللوجستي المتكامل، وتستفيد من المنظومات التسليحية والمعدات العسكرية، فضلاً عن إجراء المناورات التدريبية، مع توفير الملاذ الآمن لعائلاتهم.
في واقع الأمر، تكشف المعطيات عن منظومة عملياتية متكاملة تضمّ عشر مجموعات مسلحة مصنّفة في قوائم الإرهاب الدولي، تعمل جميعها تحت إشراف وتوجيه مباشر من الأجهزة التركية المختصة، وتؤكد المصادر الاستخباراتية أن أنقرة تمارس رقابةً إلكترونيةً شاملةً على شبكات اتصالاتهم المحمولة، مع رصد دقيق لتحركاتهم الميدانية، ويزداد المشهد تعقيداً مع الكشف عن الدور التركي المحوري في تسهيل تدفق القوات الأوكرانية ومنظومات طائراتها المسيّرة إلى المنطقة.
وإزاء هذا النهج المتهور والسياسة غير المسؤولة، نجد أنفسنا مضطرين للتعبير عن موقف حازم يتجاوز حدود الاحتجاج الدبلوماسي التقليدي، مع إدانة قاطعة لهذا السلوك الذي يتنافى مع الأعراف والمواثيق الدولية.
وفي مواجهة المزاعم التركية التي تروّج لجهود دبلوماسية مزعومة لحل الأزمة عبر قنوات الحوار السياسي، يبرز سؤال جوهري موجّه إلى الرئيس أردوغان: كيف يمكن التوفيق بين خطاب يدّعي النزعة السلمية ويتطلع للقاء الرئيس بشار الأسد، وبين واقع ميداني يكرّس احتلالاً فعلياً لأراضٍ سورية سيادية؟
إن المنطق السياسي والدبلوماسي يستعصي عليه تصور إمكانية إجراء مفاوضات ذات مصداقية، في ظل استمرار السيطرة التركية على مدن حدودية تمثّل عمقاً استراتيجياً للأمن القومي السوري، فكيف يمكن لدولة ذات سيادة أن تنخرط في حوار دبلوماسي مع طرف يواصل انتهاك سيادتها الإقليمية، ويقوّض أمنها الوطني؟
كان لزاماً على أردوغان، في إطار البرهنة على نواياه الحسنة، أن يتخذ إحدى خطوتين جوهريتين: إما سحب القوات التركية من الأراضي السورية، أو الانصياع لإشراف لجنة ثلاثية - تضم في عضويتها إيران وتركيا وروسيا، حتى في غياب الجانب السوري - لتقييد نشاط المجموعات المسلحة أو تجريدها من السلاح.
غير أن أنقرة لم تكتفِ بالإحجام عن اتخاذ أي من هذين المسارين، بل تجاوزت ذلك إلى التورط المباشر في هذا الملف، وبذلك، تكون تركيا قد أخلّت بالتزاماتها المنصوص عليها في "اتفاقية أستانا"، مع استمرارها في التحكم بمجريات هذه الأزمة.
إن الموقف المناهض الذي اتخذه الرئيس بشار الأسد تجاه أردوغان، يستند إلى أسس منطقية راسخة، في ظل استمرار الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية، والحقيقة الجوهرية التي لا مراء فيها هي أنه "في ظل الاحتلال"، تفقد أي مباحثات جدواها ومغزاها.
وما لا يرقى إليه الشك، أن المخطط الذي تتبناه كل من تركيا والولايات المتحدة والكيان الصهيوني، سيؤول إلى الإخفاق، كما أن السياسات العدوانية والممارسات الانتهاكية والتدخلات غير المشروعة التي تنتهجها تركيا تجاه سوريا، ستُفضي حتماً إلى تداعيات وخيمة على المشهد الداخلي التركي".
استمرار التعاون مع روسيا في جبهة مكافحة الإرهاب
في ختام تحليله، تصدى الخبير في الشؤون الإقليمية للمزاعم المثارة حول التقصير المفترض من جانب موسكو - بوصفها حليفاً استراتيجياً لدمشق - في مواكبة المستجدات الأخيرة، مؤكداً:
"تجدر الإشارة إلى وجود معاهدة استراتيجية ممتدة لستة عقود في المجالين العسكري والأمني، والتي شهدت تجديداً في الآونة الأخيرة، فالوجود العسكري الروسي، الممتد منذ حقبة الاتحاد السوفييتي، يتجسّد في القاعدة البحرية بطرطوس، والتي أُلحقت بها لاحقاً قاعدة حميميم الجوية إبان تطورات الأزمة في سوريا.
غير أن المستجدات الجيوسياسية المتمثلة في الأزمة الأوكرانية والمواجهة مع حلف شمال الأطلسي، استدعت إعادة تموضع جزء من القوات الروسية من هذه المنشآت العسكرية إلى الساحة الأوكرانية، ومع المتغيرات السياسية المرتقبة المتمثلة في عودة ترامب، يُتوقع أن تشهد الساحة السورية تعزيزاً ملحوظاً للوجود الروسي.
إن المنظومة الإعلامية المناوئة تمارس حرباً نفسيةً ممنهجةً، ساعيةً إلى إحداث شرخ بين محوري المقاومة ومكافحة الإرهاب، ويندرج التعاون الروسي معنا في إطار الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، وفي هذا السياق، أرى أن زيارة السيد عراقجي إلى أنقرة ستكون محوريةً".