الوقت - في خضمّ التسارع الدراماتيكي للأحداث الإقليمية، وتصاعد وتيرة الانتهاكات الصهيونية في قطاع غزة والعاصمة اللبنانية، تلوح في الأفق نُذُر أزماتٍ جديدة، وقد اكتسبت هذه التوترات المتصاعدة بُعداً إضافياً مع الدعم الأمريكي الصريح.
وفي تطورٍ لافت، صرّح عاموس هوكشتاين، المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص، فور وصوله إلى بيروت، بأن الإدارة الأمريكية تسعى لاحتواء التصعيد في لبنان، عبر التنسيق مع بيروت وتل أبيب، غير أن هذا التصريح يتناقض بشكلٍ صارخ مع ما كشفته بعض المصادر عن اجتماعٍ سري عقده السفير الأمريكي في بيروت مع نظرائه الأوروبيين والإقليميين، حيث دعا صراحةً إلى إذكاء الاضطرابات الاجتماعية في لبنان، بهدف تجريد المقاومة من سلاحها.
وفي تفاصيل المخطط الأمريكي، كشف السفير عن استراتيجية تهدف إلى توظيف الضغط المجتمعي لإجبار حزب الله على التخلي عن قدراته العسكرية، وقد تجلّت ملامح هذا المخطط في مواقف بعض الشخصيات السياسية اللبنانية، التي بدأت تدّعي انقطاع قنوات الاتصال مع حزب الله، متخذةً من ذلك ذريعةً لتأجيج الأزمات في الساحة اللبنانية.
الكشف عن الاستراتيجية الإيرانية الجديدة: "من النيل إلى الفرات"
بالتزامن مع المخططات الأمريكية المستحدثة إقليمياً، شرع رئيس الدبلوماسية الإيرانية في مسارٍ دبلوماسيٍّ مكثَّف، متنقلاً بين العواصم المحورية - الأردن ومصر وتركيا - حيث ترأس اجتماعات وزراء خارجية آلية التعاون الإقليمي في القوقاز، مُختتماً جولته في المنامة، وقد أثمرت هذه التحركات الدبلوماسية المتسارعة، التي امتدت لأقل من أسبوعين، عن سلسلة مباحثاتٍ استراتيجية مع صنَّاع القرار الإقليميين.
وفي سياقٍ متصل، كثَّف عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، تحركاته الدبلوماسية عقب عملية "الوعد الصادق 2"، حيث قام بزيارات مكوكية شملت عشر عواصم إقليمية خلال الشهر المنصرم، وتميزت هذه الجولة الدبلوماسية بحمل رسائل متعددة المستويات، موجّهةً للفاعلين الإقليميين والدوليين على حدٍ سواء.
وكشف مصدرٌ دبلوماسيٌّ رفيع المستوى عن مضمون الرسائل الاستراتيجية التي حملها عراقجي، موضحاً أن المبعوث الإيراني كان يحمل رسالتين: الأولى عامة وموجّهة لكل دول المنطقة، والثانية خاصة ومُركَّزة لبعض الدول الخليجية تحديداً.
لقد تمحورت الرسالة الأولى حول دعوة صريحة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتوحيد المواقف الإقليمية، في مواجهة الانتهاكات الصهيونية المتصاعدة، أما الرسالة الثانية، فحملت تحذيراً دبلوماسياً واضحاً لبعض الدول الخليجية من مغبَّة الانسياق وراء المحور الأمريكي-الصهيوني، مُلمِّحةً إلى تداعيات استراتيجية محتملة لمثل هذا الموقف.
يقدّم خبراء السياسة تحليلاً للمبادرة الإيرانية المستقلة في المنطقة، والتي تتزامن مع التحركات الأمريكية، باعتبارها استراتيجية "الإنذار والدبلوماسية" في مواجهة التهديدات، حيث تقوم طهران بتوظيف الأدوات الدبلوماسية إقليمياً، مع إطلاق التحذيرات العسكرية اللازمة في آنٍ واحد.
وقد وجّه اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، رسالةً واضحةً قائلاً: "في حال ارتكبتم أي خطأ واستهدفتم مصالحنا سواء في المنطقة أو في إيران، فسنوجّه لكم ضربةً موجعةً مجدداً"، كما صرح اللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية يوم الجمعة الماضي، واصفاً "إسرائيل" بأنها "غدة سرطانية"، مؤكداً أن "العدو الصهيوني يجب أن يدرك أنه يقترب من نهاية وجوده البائس".
ويرى العديد من المحللين أن هذا النهج الإيراني، المرتكز على محوري "الإنذار" و"الدبلوماسية"، والذي يدير الميدان والدبلوماسية بشكل متوازٍ، يجعل من جولات عباس عراقجي بمثابة اللسان الدبلوماسي للقادة العسكريين، وتسعى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذه المرحلة الحساسة من الظروف الإقليمية، إلى إيصال التحذيرات اللازمة عبر القنوات الدبلوماسية، إلى جانب الرد على التهديدات.
العلاقات المصرية الإيرانية: تعقيدات متشابكة وآفاق مستقبلية واعدة
تُعدّ العلاقات الثنائية بين مصر وإيران من أكثر العلاقات تشابكاً وتعقيداً في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما أن هذين البلدين المحوريين، اللذين يتمتعان بثقل تاريخي وسياسي هائل، قد شهدا على مدار عقود من الزمن خلافات جوهرية على الصعيدين السياسي والأيديولوجي.
کما أن التحولات الديناميكية المتسارعة التي تشهدها المنطقة في الآونة الأخيرة، وخاصة أن الأحداث الملتهبة الجارية في لبنان وقطاع غزة، قد أعادت العلاقات الدبلوماسية الحساسة بين طهران والقاهرة إلى دائرة الضوء مجدداً، ومحط أنظار المراقبين والمحللين.
ومع تصاعد حدة التوترات الإقليمية المقلقة، يتساءل صناع القرار والخبراء عما إذا كانت هذه التطورات المتلاحقة ستسرّع وتيرة تطبيع العلاقات بين القاهرة وطهران، باعتبارهما قوتين إقليميتين فاعلتين ومؤثرتين على مرّ العصور، أم ستزيد من تعقيد المشهد، وفي أعقاب الحروب الإسرائيلية الضارية على لبنان وغزة، يبدو أن احتمالات التقارب الدبلوماسي بين مصر وإيران باتت أقرب من أي وقت مضى.
فالاتصالات الرسمية والخفية على حد سواء تتواصل بوتيرة متسارعة، وكان ذروتها الزيارة المهمة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني، السيد عباس عراقجي، إلى مصر يوم الخميس الماضي، في إطار جولته الدبلوماسية عالية المستوى في منطقة الشرق الأوسط.
إن المبادرة الحكيمة بالجمع بين التحذير الحازم والدبلوماسية، يمكن أن تخلق توازناً إقليمياً جديداً، وتعرقل المساعي الأمريكية الرامية إلى فرض نظام عالمي جديد يخدم مصالحها الخاصة، وقد أدت هذه الاستراتيجية الذكية إلى أن تكون الأيدي على الزناد من ناحية، مع التعبير الواضح عن عدم الرغبة في تصعيد التوتر من ناحية أخرى.
وبعبارة أخرى، فإن التحذير الصارم والدبلوماسية الهادئة هما وجهان متكاملان لعملة السياسة الخارجية الإيرانية الرصينة، في استراتيجيتها المتوازنة القائمة على عدم التلكؤ وعدم التسرع في آن واحد.
وفي تحليلٍ للموقف، يطرح كينيث كاتزمان - الخبير في مركز سوفان والمستشار في مجموعة "غلوبال إنسايتس" - رؤيةً حول التوجهات الاستراتيجية الإيرانية المستجدة:
يتساءل المحلل البارز عن احتمالية إجراء طهران مراجعةً جوهريةً لمنظومتها الأمنية القومية، ومساعيها الحثيثة لتكريس رؤيتها الإقليمية، وفي هذا السياق، جاء الرد الأولي من المرشد الأعلى للثورة في إيران، السيد خامنئي، في خطابٍ ألقاه خلال صلاة الجمعة في جامعة طهران في الرابع من أكتوبر، حيث أكد بلهجةٍ حازمة: "إن شعبنا المقاوم في لبنان وفلسطين، وقوافل الشهداء والدماء الزكية المُراقة، لن تُزعزع عزيمتكم، بل ستُرسّخ صلابتكم وثباتكم".
ويذهب نخبة من المحللين الاستراتيجيين إلى أن إيران لا تزال ترى في حزب الله، حتى مع تراجع قدراته، ركيزةً استراتيجيةً لا غنى عنها في منظومة قوتها الإقليمية، كما يُرجَّح أن القيادة الإيرانية تستشرف في غياب رؤية إسرائيلية واضحة لمرحلة "اليوم التالي" في إدارة غزة وأمنها، فرصةً سانحةً لحركة حماس لإعادة بناء قواها.
وتأتي التحذيرات الإيرانية المتعلقة بإمكانية شن هجمات صاروخية واسعة النطاق على أهداف إسرائيلية - رداً على أي رد إسرائيلي محتمل على الضربة الإيرانية في الأول من أكتوبر - لتؤكد أن طهران لا ترى أي تراجع في قدراتها الاستراتيجية.
وما يسترعي الانتباه أن السياسة الإيرانية القائمة على المزج بين التحذير والطمأنة، قد امتدت من ضفاف النيل إلى شواطئ الفرات، حيث نجد بعض العواصم، كعمّان، تسعى حثيثاً للحصول على ضمانات دبلوماسية من طهران، في حين تنتهج دول أخرى، كالبحرين، سياسة النأي بالنفس عن دوامة الصراعات.
وفي هذه الجولة من الزيارات الإقليمية، سعى عراقجي إلى ترسيخ إدراك لدى جميع الأطراف، مفاده بأن تصرفات الکيان الصهيوني ينبغي أن تُشكّل مصدر قلق مشترك لدول المنطقة، وأن المواجهة بين إيران والکيان لا يمكن أن تقتصر على نزاع بين كيانين سياسيين في غرب آسيا، بينما يقف الآخرون جانباً كمتفرجين.