الوقت- لقد بلغ التوتر بين تل أبيب وحزب الله ذروته غير المسبوقة، في أعقاب المغامرات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي اللبنانية، ما يُنذر باحتمالية اندلاع مواجهة شاملة في أي لحظة، فعقب الاعتداءات الإرهابية على أجهزة الاتصال واغتيال قادة المقاومة في لبنان، شنّت القوات الإسرائيلية هجوماً وحشياً على الضاحية الجنوبية لبيروت، مدّعيةً استهداف المركز القيادي الرئيسي لحزب الله.
وفي تصريحات مثيرة للجدل، زعمت مصادر إسرائيلية أن الهدف الرئيسي للعملية كان اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، بيد أن الغموض لا يزال يكتنف مصير القائد اللبناني، إذ لم يصدر أي بيان رسمي عن وضعه سواء من تل أبيب أو من حزب الله، وفي خضم هذا الضباب الإعلامي، تضاربت الأنباء حول سلامته أو استشهاده، لتبقى تفاصيل هذه الجريمة النكراء طي الكتمان، حتى انتهاء عمليات إزالة الأنقاض وصدور بيان رسمي من حزب الله.
وفي تفاصيل العملية، كشفت وسائل الإعلام العبرية عن استخدام قنابل فائقة القدرة على اختراق التحصينات، ما أسفر عن تدمير عدة مبانٍ استراتيجية، كما أشارت إلى مشاركة مقاتلات الشبح من طراز إف-35 في تنفيذ الهجوم.
ويُروى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أصدر أوامره بتنفيذ العملية من مقر إقامته في نيويورك، في قرار وصفته الأوساط الأمنية الإسرائيلية بـ"الصعب والحاسم"، والذي تمت المصادقة عليه في اجتماع طارئ للمجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية.
وفي تصريح لافت للنظر، أفاد مصدر إسرائيلي لصحيفة "أكسيوس" الأمريكية بأن "كبار قادة حزب الله كانوا متواجدين في المقر المستهدف لحظة شن الهجوم الإسرائيلي"، ما يضفي بُعداً جديداً على تداعيات هذه العملية الخطيرة، وانعكاساتها المحتملة على المشهد الإقليمي برمته.
وفي خضم هذا المشهد، سعت حكومة نتنياهو، عبر عمليتها الأخيرة بالغة الخطورة، إلى تحقيق هدفين استراتيجيين: تصفية القيادات العليا لحزب الله، وترميم موقعها المتصدع داخلياً، والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه بإلحاح هو، هل نجحت هذه المغامرة الإسرائيلية في تحقيق غاياتها المنشودة، أم إن ارتداداتها تجاوزت بكثير حسابات المؤسسة الأمنية الصهيونية؟
لتفكيك معادلة هذه العملية المثيرة للجدل، يتعين علينا إجراء تحليل ثلاثي الأبعاد: أولاً: استقراء الأهداف الاستراتيجية لحكومة نتنياهو المتطرفة، ثانياً: تقييم الاستجابة المتوقعة من حزب الله ومحور المقاومة، وثالثاً: إجراء موازنة دقيقة بين المكاسب المحققة والخسائر المتكبدة للكيان الصهيوني.
توقعات تل أبيب من الهجوم على مقر حزب الله
تنطلق القيادة الصهيونية من قناعة راسخة، مفادها بأن حركات المقاومة في المنطقة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقادتها، وأن استهداف رؤوس هذه الحركات من شأنه إضعاف قوى المقاومة وضمان أمن المستوطنين، وفي ضوء هذا التصور، قامت حكومة نتنياهو بتخطيط الهجوم على الضاحية الجنوبية لبيروت، آملةً في اغتيال السيد نصر الله وإضعاف حزب الله، سعيًا منها للخروج من الأزمة التي صنعتها بنفسها خلال العام الماضي، وتثبيت الأمن على الحدود الشمالية.
في الوقت الراهن، نزح أكثر من 70 ألف مستوطن عن منازلهم خوفًا من العمليات اليومية لحزب الله، ورغم مساعي تل أبيب، فإنهم يرفضون العودة، لذا، كان أحد أهداف نتنياهو رفع مستوى الأمان للمستوطنين، من خلال شن هجمات واسعة النطاق في لبنان واغتيال القادة البارزين في حزب الله، إذ إن استمرار نزوح عشرات الآلاف، يشكّل عبئًا ثقيلًا على كاهل الحكومة.
کما قام الجيش الصهيوني خلال الأيام العشرة الماضية بشن هجمات على المناطق الجنوبية في لبنان، مدعيًا تدمير نصف ترسانة حزب الله، غير أن العمليات الصاروخية التي نفذها حزب الله باستخدام أسلحة جديدة ضد الأراضي المحتلة، بما فيها تل أبيب وحيفا، أثبتت أن الترسانة العسكرية للحركة لا تزال قويةً، وأن ادعاءات قادة تل أبيب لا تتطابق مع الواقع، بل إن الجولة الجديدة من العمليات الصاروخية لحزب الله، والتي وصلت إلى عمق 60 كيلومترًا، قد وضعت عددًا أكبر من المستوطنين في مرمى صواريخ المقاومة، وتشير التقديرات إلى أن مليوني صهيوني يقضون معظم ساعات النهار في الملاجئ.
من جهة أخرى، سعى نتنياهو، الذي تكبد خسائر فادحة في غزة ويواجه انتقادات حادة من الأحزاب المعارضة، إلى تقديم الهجوم على لبنان واغتيال قادة المقاومة كإنجاز كبير للصهاينة، في محاولة للتهرب من وطأة الانتقادات الواسعة الموجهة إليه.
ومن بين القضايا الأخرى المتعلقة بالمغامرة الإسرائيلية، تبرز قضية محورية تتمثل في محاولة إغراق حزب الله في دوامة من الاضطرابات الداخلية، وذلك عبر استهداف قياداته العليا واستنزاف قدراته التنظيمية.
وفق الرؤية الاستراتيجية لصناع القرار في تل أبيب، فإن تصفية الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، إلى جانب النخبة القيادية العليا، من شأنه أن يُفضي إلى إرباك جذري في صفوف المقاومة، ما يحرمها من القدرة على المناورة الميدانية وإعادة هيكلة منظومتها العسكرية بكفاءة، وبالتالي تقليص نطاق عملياتها ضد الأراضي المحتلة بشكل ملموس.
يجدر التنويه إلى أن حزب الله يمتلك ترسانةً صاروخيةً متطورةً، تشمل منظومات عالية الدقة وبعيدة المدى، قادرة على تغطية كامل الأراضي المحتلة عند الاقتضاء، ويذهب التيار المتشدد في تل أبيب إلى الاعتقاد بأنه في حال غياب القيادة الحكيمة للسيد نصر الله، ستعجز العناصر الأقل خبرةً في صفوف المقاومة عن الاستخدام الأمثل لهذه الترسانة الاستراتيجية.
بل إن القيادة الإسرائيلية تزعم امتلاكها لمعلومات استخباراتية دقيقة حول مواقع تمركز قيادات حزب الله، وتراهن على أن اغتيال السيد نصر الله وكبار مساعديه، سيدفع القيادة المستقبلية للحركة نحو تبني نهج أكثر حذرًا وتحفظًا، خشية التعرض لمصير مماثل، ما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل موازين القوى لمصلحة تل أبيب، وتعزيز الأمن النسبي للأراضي المحتلة.
النتائج العكسية للجرائم الإسرائيلية
في حين أن الغارات الجوية الإسرائيلية على لبنان قد ألحقت بعض الأضرار بحزب الله، إلا أن تداعيات هذا التصعيد العدواني تفوق بكثير أي مكاسب وهمية قد يتوهمها الكيان المحتل.
إن الاعتقاد بأن اغتيال قادة المقاومة سيؤدي إلى إضعاف هذه الحركات وتخفيف التهديدات ضد الأراضي المحتلة، هو سراب خادع وتصور قاصر، فقد أثبتت تجارب العقدين الماضيين أن كل قائد يسقط شهيداً، يخلفه آخر أكثر صلابةً وعزماً على مواصلة درب النضال بقوة متجددة وإرادة لا تلين.
فعندما أقدم الصهاينة على اغتيال السيد عباس الموسوي، الأمين العام السابق لحزب الله، في عام 1992، ظنوا واهمين أنهم قد وضعوا حداً لهذه الحركة المقاومة، بيد أن الثلاثة عقود التالية شهدت تحولاً جذرياً لحزب الله تحت قيادة السيد حسن نصر الله، خليفة الموسوي، من مجموعة مقاومة محدودة إلى قوة عسكرية ضاربة، حتى أن الصهاينة أنفسهم اعترفوا - في لحظة ندم متأخر - أنهم لو أدركوا أن حزب الله سيتعاظم بهذا الشكل بعد اغتيال الموسوي، لما أقدموا على فعلتهم النكراء.
لقد نجح حزب الله في عهد قيادة السيد نصر الله في دحر جيش الاحتلال من جنوب لبنان، وإلحاق هزائم ساحقة بهذا الكيان في حرب الـ 33 يوماً عام 2006، وما لا شك فيه أن هذه الانتصارات التاريخية، ستتوالى وتتعاظم في ظل القيادات المستقبلية لهذه الحركة.
وهذه الحقيقة الساطعة لا تقتصر على حزب الله وحده، بل تنسحب على سائر حركات المقاومة في المنطقة، فقد راهنت الولايات المتحدة و"إسرائيل" على أن اغتيال الشهيد قاسم سليماني والشهيد أبو مهدي المهندس، سيؤدي إلى إضعاف إيران وفصائل الحشد الشعبي في العراق، وبالتالي ضمان أمن الكيان الصهيوني، غير أن هذه الجرائم النكراء ارتدت عليهم وباﻻً، إذ أصبحت الفصائل العراقية اليوم أكثر قوةً وجرأةً في استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة والأراضي المحتلة.
أما فيما يخصّ حركة أنصار الله في اليمن، فعلى الرغم من محاولات اغتيال بعض قادتها من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، إلا أن هذه الأعمال الجبانة والغادرة لم تنل من عزيمة الحركة، بل على العكس تماماً، فقد تمكنت اليوم من تطوير قدرات عسكرية متقدمة، بما في ذلك صواريخ فرط صوتية وغواصات مسيّرة، قادرة على اختراق دفاعات الکيان الصهيوني، واستهداف عمقه الاستراتيجي دون أي عوائق.
وبالتالي، في خضم الضباب الإعلامي المحيط بمصير السيد نصر الله، تبرز حقيقة ساطعة لا يمكن إنكارها وهي إن حزب الله، بهيكليته الراسخة وقدراته المتجددة، يتجاوز في قوته وتأثيره أي شخصية فردية، مهما علت مكانتها، فحتى لو تحققت أمنية الصهاينة باستشهاد هذا القائد الفذ - وهو ما لم يثبت بعد - فإن الحزب يمتلك من الكوادر القيادية المؤهلة ما يضمن استمرار نهجه المقاوم بالزخم نفسه، إن لم يكن بقوة أعظم.
لقد نجح حزب الله، عبر عقود من العمل الدؤوب، في بناء منظومة قيادية متعددة المستويات، تضمن استمرارية العمل وتدفق الخبرات في جميع المجالات السياسية والعسكرية والأمنية، وهذه البنية المتينة، المدعومة بقاعدة شعبية صلبة، تجعل من محاولات النيل من الحزب عبر استهداف قياداته ضرباً من المستحيل.
إن قدرة حزب الله على تصنيع صواريخ دقيقة التوجيه، معتمداً على قدراته الذاتية، لهي شهادة دامغة على فشل المساعي الصهيونية في تقويض قدراته على مدى عقدين من الزمان، وهذا الإنجاز التقني المذهل يكشف عن عمق الخبرات المتراكمة، وقوة البنية التحتية العلمية والتقنية التي يمتلكها الحزب، والتي لا يمكن اقتلاعها بضربات عسكرية مهما بلغت شدتها.
أما المزاعم الصهيونية حول تدمير منصات الصواريخ وترسانة حزب الله، فليست سوى فقاعات إعلامية فارغة، تهدف إلى رفع معنويات المستوطنين المنهارة، وإيهام العالم بقدرة جيش الاحتلال على حسم المعركة، بيد أن توسيع حزب الله لنطاق عملياته، ليشمل عمق الأراضي المحتلة، قد مزّق هذا الوهم وكشف عن حقيقة موازين القوى على الأرض.
إن قوة حزب الله وصموده لا يرتكزان على شخص واحد، مهما كانت عظمته، فالحزب، بفكره وعقيدته وبنيته التنظيمية المحكمة، قادر على تجاوز أي خسارة في صفوف قيادته، بل تحويل هذه الخسارة إلى دافع أقوى نحو المزيد من الإنجازات، وهكذا، فإن كل محاولة صهيونية لإضعاف هذه الحركة المقاومة عبر استهداف قادتها، لن تؤدي إلا إلى تصليب عودها وتعميق جذورها في وجدان الشعب.
سيحافظ حزب الله، حتى في غياب السيد نصر الله، على قوته العسكرية وبنيته السياسية، بل إنه تحت قيادة جديدة قد يحقق إنجازات أعظم، مُلحقاً الندم بالعدو، فهذه الحركات لا تعتمد على شخص واحد لتنهار باغتيال قادتها، بل ستزيد من تكاليف الاحتلال على الكيان الإسرائيلي.
تصعيد التوتر لا يصب في مصلحة الكيان الصهيوني
يتفق خبراء التحليل السياسي والدبلوماسيون على الصعيد العالمي، أن التحركات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في لبنان، تنذر بتحول المنطقة إلى ساحة حرب شاملة، فقد تجاوزت حكومة نتنياهو، بإقدامها على اغتيال قيادات حزب الله، الخطوط الحمراء التي رسمها محور المقاومة، ما يُنبئ بتصاعد حدة التوترات بشكل غير مسبوق.
وعلى الرغم من التهديدات المتكررة التي يطلقها ساسة تل أبيب ضد إيران وفصائل المقاومة، محذرين من عواقب وخيمة لأي استهداف للأراضي المحتلة، إلا أن الكيان الصهيوني يجد نفسه اليوم غارقاً في مستنقع من الأزمات الداخلية، ما يقوّض قدرته على مجابهة كل أطراف المقاومة، وهو واقع أقرّ به المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم.
وفي هذا السياق، أصدرت فصائل المقاومة في العراق وسوريا ولبنان واليمن تحذيرات صارمة، مؤكدةً استعدادها للرد بحزم على أي عدوان صهيوني، وشددت على أنه في حال اندلاع الحرب، ستتحول الأراضي المحتلة إلى بؤرة من عدم الاستقرار، وذلك عبر تنسيق محكم مع غرفة العمليات المشتركة.
وفي ظل الوضع الراهن، يعاني جيش الاحتلال من استنزاف كبير لقدراته العسكرية جراء انخراطه في جبهتي غزة والشمال، کما أن اعتماد الكيان الصهيوني على الغارات الجوية - وهي آخر أوراقه العسكرية - يكشف بجلاء عجزه عن خوض مواجهة مباشرة مع حزب الله، إذ لو كان يمتلك القدرة الكافية، لكان قد شرع في عملية برية حتى الآن.
وفي الختام يمکن القول إن المقاومة، بانتهاجها استراتيجيةً طويلة النفس وتكثيف ضرباتها الموجهة نحو الأهداف العسكرية والاستراتيجية في عمق الأراضي المحتلة - ما يُكبّد الکيان خسائر فادحة ويُنهك قدراته القتالية - تمتلك القدرة على تحقيق مكاسب استراتيجية هائلة، ويتجلى ذلك من خلال توسيع رقعة العمليات، واستهداف نقاط حيوية جديدة في الأراضي المحتلة، وتصعيد وتيرة القصف الصاروخي، بهدف تعظيم الضغط العسكري والنفسي على الكيان الصهيوني.
لقد برهن الكيان الصهيوني مراراً وتكراراً على أنه لا يستجيب إلا للغة القوة الرادعة، وأن أي مهادنة أو تساهل معه لا يزيده إلا تماديًا في غيّه وإجرامه، ولهذا السبب، ستتخذ جبهة المقاومة في الأيام القادمة قرارات مصيرية لمجابهة آلة القتل الصهيونية، قرارات ستكون لها تداعيات عميقة على مستقبل المنطقة برمتها.
من منظور آخر، فقد كشفت أحداث العام المنصرم عن حقيقة جلية، وهي متى ما تزعزع الأمن في الأراضي المحتلة، فلن يكون أمام المستوطنين الصهاينة من خيار سوى الفرار المذعور، وإن شبح الهجرة العكسية يمثّل الكابوس الأعظم لقادة تل أبيب، إذ إنه في خضم الاضطرابات الأمنية المتصاعدة، قد يوجّه ضربةً قاصمةً لهذا الكيان المتداعي، ضربةً قد تكون بمثابة المسمار الأخير في نعشه.