الوقت - لقد امتدت نيران الحرب التي أشعلتها القيادة الصهيونية المتطرفة لتطال الأراضي اللبنانية، حيث شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية غارات مكثفة على مناطق متفرقة، مع تركيز خاص على الضاحية الجنوبية لبيروت. ووفقًا لإحصائيات وزارة الصحة اللبنانية، بلغت حصيلة هذا العدوان الغاشم 492 شهيدًا على الأقل، إضافةً إلى مئات الجرحى، غالبيتهم من المدنيين الأبرياء، مع استمرار عمليات البحث عن ضحايا تحت الأنقاض.
في المقابل، ردّ حزب الله بحزم على هذا التصعيد الخطير، مطلقًا وابلًا من الصواريخ باتجاه عمق الأراضي المحتلة، مستهدفًا المستوطنات الصهيونية بشكل مكثف ومتواصل. وقد دفع هذا الرد القوي السلطات الإسرائيلية إلى إعلان حالة الطوارئ القصوى في جميع أنحاء فلسطين المحتلة، في مؤشر واضح على حجم التأثير الاستراتيجي لعمليات المقاومة.
لکن وسط الغموض المكتنف لمآلات هذا الصراع المحتدم في الأيام القادمة، صرّح يوآف غالانت، وزير الحرب في الكيان الصهيوني، عن انطلاق المرحلة الثالثة من العمليات العسكرية في لبنان. وبالتزامن مع هذه التصريحات الخطيرة، كشفت مصادر إعلامية أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، في إطار استعداداته لشن هجمات واسعة النطاق على جنوب لبنان، قد بادر بإرسال رسائل نصية تحذيرية إلى قاطني المنطقة، مطالبًا إياهم بإخلاء منازلهم على وجه السرعة.
تضمنت هذه الرسائل النصية مزاعم خطيرة، تفتقر إلى أي أساس من الصحة، مفادها أن المنازل السكنية قد تحولت إلى مستودعات لأسلحة حزب الله. وقد ورد في نص الرسالة تحذير صريح: "إذا كنتم في مبنى يحتوي على أسلحة لحزب الله، فيتوجب عليكم مغادرة القرية فورًا حتى إشعار آخر".
في سياق متصل، أدلى دانيال هاغاري، الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال الصهيوني، بتصريحات مماثلة في اليوم السابق، زاعمًا أن حزب الله يقوم بتخزين الصواريخ والذخائر في منازل المدنيين.
إن تكرار هذه المزاعم الباطلة والادعاءات المضللة، في ظل الاستهداف الممنهج والواسع النطاق الذي يمارسه الكيان الصهيوني ضد المنشآت المدنية - بما فيها المراكز الصحية والبنى التحتية الحيوية والمناطق السكنية في المدن والقرى - خلال هجمات يوم الاثنين الدامية، يمكن اعتباره مؤشرًا خطيرًا على مخطط تل أبيب لتوسيع نطاق جرائمها ضد المدنيين في الفترة القادمة، سواء على مدى الأيام أو الأسابيع أو حتى الأشهر المقبلة.
لماذا تُعدّ مزاعم الجيش الصهيوني باطلةً من أساسها؟
في خضم الادعاءات الواهية التي يسوقها الكيان الصهيوني حول تحويل حزب الله المناطق السكنية اللبنانية إلى مستودعات للأسلحة، تنهض أدلة دامغة وبراهين قاطعة تدحض هذه المزاعم، وتكشف النقاب عن المؤامرات الصهيونية المحبوكة خلف إثارة هذه القضية المفتعلة.
إن الشاهد الأبرز والبرهان الساطع على زيف تصريحات قادة جيش الاحتلال، بشأن مواقع تخزين صواريخ المقاومة في لبنان، يتجلى في البنية التحتية فائقة التطور والاحترافية التي يمتلكها حزب الله. هذه البنية، التي تليق بجيش عصري ذي قدرات هائلة، تشمل منظومةً متكاملةً لإنشاء مستودعات الأسلحة وفق أساليب بالغة التعقيد والدقة العلمية لضمان أمنها، فضلاً عن آليات متقدمة لتجهيز المعدات العسكرية بسرعة فائقة للاستخدام الفوري في ساحات المعرکة.
ومن الشواهد الحية على هذا التفوق التقني والعسكري، والتي كشفت المقاومة من خلالها عن شذرة يسيرة من قدراتها في مجال تخزين الترسانة الصاروخية، ما بات يُعرف بـ"المدن الصاروخية". هذه المنشآت العملاقة، بامتداداتها الشاسعة وتجهيزاتها المتطورة، أحدثت زلزالاً إعلامياً مدوياً حين تم الكشف عن حركة منصات إطلاق الصواريخ الدقيقة الضخمة، وعن راکبي الدراجات النارية المدججين بصواريخ مضادة للدروع، محمولةً على الأكتاف وموجهةً بدقة متناهية.
لقد برهن هذا الاستعراض القوي، على التطور المذهل وغير المسبوق للقدرات العسكرية للمقاومة اللبنانية، مما ألقى الرعب في قلوب قادة الكيان الصهيوني. وقد أكدت مصادر المقاومة أن ما تم الكشف عنه، ليس سوى غيض من فيض المفاجآت المذهلة التي تختزنها جعبة حزب الله، والتي ستبقى طي الكتمان إلى حين ساعة الصفر.
إن قدرة حزب الله الفائقة على تشييد صروح صاروخية بهذه الضخامة والتطور التقني المذهل، وذلك على مرمى حجر من حدود الأراضي المحتلة، وفي ظل الرصد الاستخباراتي المكثف للكيان الإسرائيلي وحليفته الأمريكية وأذنابهما الإقليميين، لَتجعل من مزاعم استغلال مساكن المواطنين كمستودعات للصواريخ، ضرباً من السخف المستهجن والهراء المفضوح.
ومما يزيد هذه الادعاءات وهناً، الطبيعة الجغرافية الممتدة للبنان مقارنةً برقعة فلسطين المحتلة الضيقة، والتباين الشاسع بين الواقع اللبناني وظروف قطاع غزة المحاصر. فقد دأب الكيان الصهيوني، على مر السنين وإبان حروبه العدوانية ضد مقاومة غزة الباسلة، على ترويج أكاذيب استخدام حركة حماس للمنشآت المدنية كمنصات لإطلاق الصواريخ صوب المستوطنات، وذلك في مسعى بائس للتستر على جرائمه الوحشية بحق المدنيين وتسويغها.
وعلى الرغم من انكشاف زيف هذه الأباطيل الصهيونية مراراً وتكراراً، ولا سيما في الحرب الأخيرة على غزة في أعقاب ملحمة طوفان الأقصى، حيث تجلت بوضوح ذرائعهم الواهية لسفك دماء الأبرياء من نساء وأطفال، إلا أن طبيعة حرب العصابات التي تخوضها فصائل المقاومة، وامتداد ساحة الحرب إلى أزقة غزة وشوارعها نظراً لضيق رقعتها البالغة 360 كيلومتراً مربعاً والمطوقة من كل صوب، لا تشبه مطلقاً الواقع الجغرافي الفسيح للبنان.
ويزداد هذا التباين وضوحاً عند استحضار حقيقة أن لبنان يتشارك حدوداً تمتدّ على مسافة 375 كيلومتراً مع سوريا، التي تُعدّ ركناً أصيلاً وراسخاً في محور المقاومة.
کذلك، فقد أبدع حزب الله، مضاهياً نظراءه في حركة حماس، في نسج شبكة عبقرية من الدهاليز الجوفية، تتسم بتعقيدها الفائق وامتدادها الشاسع. وهذه المنظومة الهندسية، التي تمخضت عن جهود جبارة على مر العقود، تنساب كشريان حيوي على امتداد الحزام الحدودي بين لبنان والأراضي المحتلة شمالاً، في مسافة تناهز الخمسة وسبعين كيلومتراً.
إن جيش الاحتلال الصهيوني، بكل ما أوتي من وسائل التجسس والرصد، يدرك في قرارة نفسه أن هذه الشبكة الأنفاقية البديعة، تشكّل حجر الزاوية وعمود الارتكاز في المنظومة القتالية والعملياتية لقوات النخبة في حزب الله. فالمقاومة، بما عُرف عنها من حنكة استراتيجية وبصيرة ثاقبة، تأبى أن تعرّض مستودعاتها الحربية الحيوية لمخاطر الغارات الجوية الغادرة، التي قد يشنها الکيان الغاشم في أي لحظة.
وعليه، فإن الزعم المتهافت بأن حزب الله قد اتخذ من مساكن المواطنين الآمنين في حواضر المدن وقرى الريف، مخابئ لذخائره وعتاده، لهو ضرب من الهذيان السياسي، لا يصمد أمام أدنى تمحيص منطقي أو تدقيق عقلاني. إنه لمن السذاجة بمكان أن يُتصور أن تنظيماً بهذا المستوى من الاحترافية والتطور، قد يلجأ إلى مثل هذه الممارسات البدائية التي لا تليق بمكانته ولا تتناسب مع قدراته الفائقة.
تكرار سيناريو تدمير غزة في لبنان
مع تهاوي الأكاذيب الصهيونية وانكشاف ادعاءات جيش الاحتلال، يتبلور الآن سؤال محوري يستنطق الدوافع الخفية وراء نسج هذه الأباطيل، ويستجلي المخططات المستترة في طياتها.
إن التمعُّن في مسار الأحداث الدامية على مدى أحد عشر شهراً من حرب غزة، يميط اللثام عن حقيقة مروعة: فقادة الكيان الصهيوني الإجرامي، في حكومتهم المتطرفة، وفي محاولة بائسة للتملص من تبعات هزيمتهم النكراء أمام بسالة المقاومة في غزة، قد انحدروا - متكئين على دعم القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة - إلى أحط دركات الوحشية في ممارساتهم الحربية.
حيث انتهجوا سياسة إبادة جماعية منهجية لأهل غزة الصامدين، مقرونةً بأقصى درجات التدمير الممنهج لمساكن الآمنين، ومزارع الفلاحين وبساتينهم، ناهيك عن تدمير البنى التحتية الاقتصادية والصحية والتعليمية. وقد أفضت هذه السياسة الإجرامية الشنيعة، إلى ما تشير إليه التقديرات المختلفة من تدمير ما يناهز سبعين بالمئة من نسيج قطاع غزة الحيوي.
وفي ضوء هذه الحقيقة، فإنه لمن المؤكد أن زمرة المجرمين في قيادة الكيان الصهيوني، من عسكريين وساسة، وبتواطؤ وثيق مع أسيادهم في الإدارة الأمريكية، يحيكون خيوط مؤامرة خبيثة لاستنساخ هذا السيناريو الإجرامي على أرض لبنان، أو على الأقل في جنوبها. ولهذا المخطط دوافع وأسباب، تستدعي التمحيص الدقيق والتحليل العميق.
بادئ ذي بدء، يجدر التنويه إلى أن كافة الفيالق العشرة المنضوية تحت لواء الجيش الإسرائيلي - والتي تضم في طياتها عشر ألوية عاملة وواحداً وعشرين لواءً احتياطياً - قد انخرطت بكامل عتادها وعديدها في أتون المعارك على جبهة غزة طيلة الأشهر الأحد عشر المنصرمة.
وقد أفضى هذا الانخراط المكثف إلى استنزاف ملحوظ في صفوف القوات، وشُحٍ في الاحتياطي الذي يُعدّ بمثابة العمود الفقري للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وهذا الواقع المستجد يحول، بلا أدنى ريب، دون إمكانية انخراط "إسرائيل" في غمار حرب برية واسعة النطاق وممتدة زمنياً مع لبنان.
وفي ضوء هذه المعطيات، وجد الجيش الإسرائيلي نفسه مضطراً، في الآونة الأخيرة، إلى إعادة تموضع اللواء 98 للمظليين - الذي كان من المزمع أن يواصل عملياته في قطاع غزة - ونقله إلى الجبهة الشمالية للانضمام إلى صفوف اللواء 36.
ومما لا يرقى إليه الشك أن القدرات العسكرية لحزب الله في ميدان الحرب البرية الشاملة، لا تزال تكتنفها ضبابية حتى في أعين الإستراتيجيين الإسرائيليين أنفسهم. وعليه، فإن الولوج في معترك حرب برية مع هذا التنظيم لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يُقاس على تجربة القتال في غزة.
وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إن محاولة استنساخ سيناريو احتلال غزة في الجنوب اللبناني، هي ضرب من ضروب المستحيل بالنسبة للجيش الإسرائيلي المنهك والمتآكل، لا سيما في ظل الخلفية السياسية والاجتماعية المتأزمة في الأراضي المحتلة. وفي ضوء هذه المعطيات، يبدو أن الخيار الأكثر أماناً ويسراً أمام الجيش الإسرائيلي، يتمثل في شن عمليات جوية واسعة النطاق في الأراضي اللبنانية.
من منظور آخر، فإن استمرار القصف العشوائي للتجمعات السكنية في جنوب لبنان على مدار الأحد عشر شهراً المنصرمة، يُعدّ دليلاً دامغاً على قصور المنظومة الاستخباراتية للكيان الصهيوني، فيما يخص رصد مستودعات الصواريخ وسائر المنشآت العسكرية التابعة لحزب الله. وهذا القصور الاستخباراتي، يُفضي حتماً إلى عجز قادة الكيان عن تقويض القدرات العسكرية لحزب الله عبر الضربات الجوية، مما دفعهم إلى إدراج استهداف المدن ضمن استراتيجيتهم العسكرية في مواجهتهم مع لبنان.
في المقابل، قام حزب الله، على مدار الفترة الماضية، بالکشف عن قاعدة معلومات استخباراتية فائقة الدقة وواسعة النطاق. وقد تجلى ذلك جلياً من خلال عرض صور للمنشآت العسكرية والبنى التحتية الاقتصادية والمرافق الاستراتيجية للكيان، تم التقاطها بواسطة طائرات مسيّرة أثناء عمليات استطلاع متقدمة في عمق الأراضي المحتلة. وتُبرهن هذه الصور على قدرة حزب الله، متى اقتضت الضرورة، على اختراق الطبقات المتعددة لمنظومة القبة الحديدية الدفاعية، واستهداف تلك المنشآت بترسانة متنوعة من الصواريخ عالية الدقة.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن تأويل الادعاءات الأخيرة للكيان الصهيوني بشأن مواقع تخزين صواريخ المقاومة، على أنها مسعى لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
أولاً، إرساء توازن رعب من خلال تدمير النسيج العمراني للمدن والقرى. ثانياً، استحداث شريط عازل على الحدود لتأمين المستوطنات، عبر جعل الأراضي اللبنانية المتاخمة للأراضي المحتلة غير صالحة للعيش. وأخيراً، إحداث موجة نزوح جماعي في المناطق الجنوبية من لبنان، بغية استخدام النازحين كورقة ضغط على حزب الله، ومقايضة عودتهم بإعادة توطين المستوطنين الصهاينة في مستوطنات الشمال.