الوقت- بينما حاولت الحكومة التركية في أواخر الشهر الماضي الإعلان عن تعليق العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الكيان الصهيوني إرضاءً للرأي العام الغاضب في البلاد من تقاعس رجال حكومتهم في دعم فلسطين، لكن الآن ينصب التركيز على مغازلة إلهام علييف، حليف أردوغان المقرب، الذي أصبح في السنوات الأخيرة مشكلة بالنسبة لأنقرة مع الصهاينة في خضم حرب غزة.
وزاد المتظاهرون الأتراك، الذين نظموا احتجاجات حاشدة في الأشهر الأخيرة دعما لشعب غزة وإدانة للجرائم الصهيونية، من مطالبهم ومسألة وقف تصدير النفط الأذربيجاني إلى الكيان الصهيوني عبر خط الأنابيب الذي يمر عبر باكو وجورجيا وإلى محطات التحميل وتصل إلى جيهان على الساحل التركي، وقد أصبحت هذه الأيام قضية النقاش لدى لشعب التركي.
وفي الأيام الأخيرة، أعرب المتظاهرون المناهضون ل"إسرائيل" في تركيا، الذين نظموا حملة "خيمة المقاومة" الشعبية، عن غضبهم من أذربيجان لتوفير الوقود لآلة الحرب الإسرائيلية من خلال رش الطلاء الأحمر على أبواب مقر شركة النفط المملوكة للدولة الأذربيجانية "سوكار" "وتحطيم نوافذها في اسطنبول.
لقد أصبحت تصرفات هؤلاء الشباب المؤيدين للفلسطينيين مشكلة متنامية بالنسبة لحكومة أردوغان، لأن وجهة النظر هذه تقيم صادرات الطاقة إلى الكيان الصهيوني على أساس العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وجمهورية أذربيجان، وكان موقف أنقرة حتى الآن هو إغلاق آذانها عن مطالب المتظاهرين وقمع هذه الاحتجاجات، إذ حسب تقرير المينتور، اعتقلت قوات الأمن حوالي 13 متظاهراً في 31 مايو/أيار، ما أجج غضب الأهالي ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة أردوغان
وتتواصل الاحتجاجات في تركيا، فيما انتقدت أنقرة وأردوغان شخصياً القادة الصهاينة لقتلهم الفلسطينيين، لكنهما لم يتخذا أي إجراء للضغط على هذا الكيان إلا بعد أشهر من بدء الحرب، وحتى المنتقدون يثيرون الشكوك حول صحة ادعاء حكومة أردوغان بتعليق التجارة مع "إسرائيل"، بما في ذلك ادعاء بعض وسائل الإعلام التي سبق أن قالت إن عددا من السفن التجارية التركية رست قبالة سواحل "إسرائيل" وإن عملية التفاعلات الثنائية لا تزال سارية.
منذ بداية الحرب، كان الرأي العام الإسلامي يطالب بفرض حظر اقتصادي وقطع كامل للعلاقات السياسية مع هذا الكيان، وبما أن الكيان الصهيوني يحتاج إلى موارد الطاقة، وخاصة النفط، لإدارة عجلة اقتصاده وصناعته، فإن الدول الموردة للنفط لهذا الكيان يمكن أن تلعب دوراً مهماً في إيقاف آلة الحرب الصهيونية في غزة من خلال وقف صادراتها، و إحدى هذه الدول هي أذربيجان التي أقامت علاقات جيدة للغاية مع "إسرائيل" في العقدين الأخيرين وتعتبر أحد موردي النفط الرئيسيين لهذا الكيان.
ووفقا لـ Energy Press، تستورد "إسرائيل" 340 ألف برميل من النفط يوميا، يتم نقل 60% منها من كازاخستان وأذربيجان عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان، وتقوم ناقلات النفط الإسرائيلية في ميناء جيهان جنوب تركيا بتحميل النفط الأذربيجاني يوميا ونقله إلى ميناء حيفا، وتعتبر "إسرائيل" الوجهة الأولى لتصدير النفط لجمهورية أذربيجان، وسبب استمرار تركيا في التوسط في هذا التصدير لا يتعلق بمصالح هذا البلد فحسب، بل بمصالح باكو أيضًا.
ورغم أن أذربيجان هي أكبر دولة شيعية من حيث عدد السكان، إلا أنها لم تنتقد قط جرائم "إسرائيل" في الأراضي المحتلة، وحتى من خلال منح امتيازات خاصة لهذا الكيان في أراضيها، أصبحت المنفذ لسياسات تل أبيب في القوقاز،و في المقابل، كان الكيان الصهيوني موردًا لمعدات عسكرية مهمة جدًا لأذربيجان في السنوات الأخيرة، والتي تشمل مجموعة واسعة من المنتجات، من طائرات "هاروب" دون طيار وصواريخ "لورا" وحتى كيان الدفاع الجوي "باراك".
أردوغان، وهو الداعم الإقليمي الرئيسي لحكومة باكو والذي رفع علاقات تركيا مع أذربيجان إلى مستوى استراتيجي في السنوات الأخيرة، لا يريد الإساءة إلى حليفه من خلال وقف صادرات النفط الأذربيجانية من خط أنابيب جيهان، ولذلك، وبسبب المصالح الاقتصادية لأذربيجان وإلى حد ما مصالحها الخاصة، فقد أغمضت عينيها عن التعاون بين باكو وتل أبيب، وخاصة في مجال نقل النفط إلى الأراضي المحتلة.
فرصة أردوغان للتعويض
بعد عقدين من وجوده في السلطة، أصبح الشعب التركي على دراية كبيرة بسياسات أردوغان الثنائية تجاه القضية الفلسطينية، وهذا هو السبب وراء استمرار المواطنين في الاحتجاج في الشوارع على الرغم من شعارات الحكومة الداعمة لغزة.
ويمكن رؤية استياء الشعب التركي من سياسات أردوغان ضد حرب غزة بوضوح في نتائج الانتخابات البلدية في هذا البلد، حيث خسر حزب العدالة والتنمية الحاكم الساحة السياسية أمام المنافسين الإسلاميين بعد عقدين من الزمن، والمعارضة الرئيسية، ولأول مرة منذ وصوله إلى السلطة عام 2002، هزُم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية التي أجريت في 31 مارس/آذار، وبعد هذه الهزيمة الانتخابية، اتجه أردوغان مرة أخرى نحو تعويض الأخطاء باللجوء إلى حشد مشاعر الطبقة الدينية واتخذ موقفا أكثر صرامة ضد الصهاينة، لكن استمرار لعب دور في نقل النفط إلى الأراضي المحتلة أردوغان أكثر قتامة بالنسبة للمواطنين الأتراك.
وأعلن موقع "غلوبس" العبري الأسبوع الماضي في تقرير نشره على موقعه الرسمي الجمعة، أن تصدير النفط الأذربيجاني إلى "إسرائيل" عبر تركيا مستمر رغم العقوبات، وأعلن هذا الموقع الاقتصادي العبري نقلا عن مسؤولين إسرائيليين أن تركيا لم تتوقف حتى الآن عن تحميل ناقلات النفط من ميناء جيهان إلى "إسرائيل"، ويذكر هذا التقرير أنه على سبيل المثال، احتلت "إسرائيل" في يناير/كانون الثاني المركز الأول في قائمة وجهات تصدير النفط الرئيسية لأذربيجان بـ 523.5 ألف طن بقيمة حوالي 297 مليون دولار.
وطالب الشعب التركي أنقرة ألا تدخر جهدا للدفاع عن شعب غزة، لكن يبدو أن رجال الدولة الأتراك يفضلون المنافع الاقتصادية على دعم الشعب الفلسطيني.
وبالنظر إلى الوضع الكارثي في غزة بسبب استمرار الجرائم الصهيونية، فإذا أراد أردوغان استعادة شرعيته السابقة بين مواطني تركيا وكسب شعبية بين الرأي العام في المنطقة، فيمكنه وقف نقل النفط الأذربيجاني إلى الأراضي المحتلة، كجزء من التعويض عن سياساته الخاطئة، ولعل هذا الإجراء المتأخر هو مقدمة لانضمام دول أخرى إلى حملة العقوبات هذه لقتل آلة حرب الكيان الصهيوني في غزة بعد تسعة أشهر.