الوقت - بعد عدة أشهر من إعلان تريسي جاكوبسن سفيرةً جديدةً للولايات المتحدة في العراق، تقوم هذه الدبلوماسية الأمريكية بالاستعدادات النهائية للذهاب إلى بغداد وبدء مهمتها بإلقاء کلمة في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ.
لكن المبعوثة الجديدة لإدارة بايدن استلت سيفها قبل أن تطأ أقدامها أرض العراق، ومع تهديداتها لفصائل المقاومة وتصريحات تدخلية حول الوضع الداخلي لهذا البلد، فإنها تحذر من حقبة جديدة من زعزعة الاستقرار، والسياسات المسببة للتوتر التي تنتهجها الولايات المتحدة في بغداد.
ففي جلسة استماع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، أعلنت جاكوبسن أن إيران هي العدو الأهم لأمريكا في العراق، وحذرت من مهاجمة القواعد الأمريكية في العراق، وأضافت: إنه "يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدةً للقيام بضربات عسكرية عند الضرورة لتدمير البنية التحتية، وفي بعض الحالات، الأفراد الذين يخططون لهذه الهجمات ضد مصالحنا".
لم تمرّ هذه التصريحات التهديدية للمبعوثة الأمريكية الجديدة إلى العراق دون رد، حيث حذّر رئيس المجلس السياسي لحركة النجباء العراقية السفيرة الأمريكية الجديدة في هذا البلد من أن موجة الهجمات ضد القواعد الأمريكية في العراق ستستمر.
وأعلن الشيخ علي الأسدي رئيس المجلس السياسي لحركة المقاومة الإسلامية العراقية النجباء في بيان: "أن تصريحات السفيرة الأمريكية الجديدة التي مارست التوجه التوجيهي لبلادنا خلال جلسة الكونغرس، لم تكن جديدةً علينا؛ لكن الجديد هو ما نريد أن نكرره للسياسيين العراقيين، أنتم في موقف لا يمكن إخفاؤه، أنتم متورطون في أطماع أمريكا وعدوانها، ما جعلكم بين موقفين؛ إما تتجاهلون حقنا في الاستقلال ودعم السيادة الوطنية، أو أنكم لم تقبلوا حقيقة عجزكم عن منع العدوان المستمر لأمريكا المجرمة المحتلة".
وحسب تقرير موقع هذه الحركة، أكد الشيخ "علي الأسدي": "وليعلم الجميع أن وجهة نظرنا لم تتغير ولن تتغير، فأمريكا هي المحتلة ولا تحترم إلا لغة القوة".
وفي النهاية حذر السفيرة الأمريكية بالقول: اجمعي انتباهك واعلمي أنه في الأيام المقبلة ستنزل صفعاتنا القادمة على وجهكم، وسترون من ستكون له الكلمة الأخيرة.
سجل جاكوبسن
في الـ26 من كانون الثاني (يناير) 2024، أعلن جو بايدن عن نيته ترشيح تريسي آن جاكوبسون، لتحلّ محلّ إيلينا رومانسكي في منصب سفيرة فوق العادة ومفوضة للولايات المتحدة الأمريكية لدى العراق.
بدأت مسيرة جاكوبسن المهنية في وزارة الخارجية الأمريكية من (2000-2003) بالعمل في السفارة الأمريكية في لاتفيا، وكانت أهم مناصبها سفيرةً في جمهورية كوسوفو (2015-2012)، وطاجيكستان (2009-2006)، وفي تركمانستان (2006-2003)، وتعتبر مسؤولية السفارة الأمريكية المؤقتة في إثيوبيا، آخر مهمة دبلوماسية لجاكوبسن.
وفي عام 2021 أيضًا، تم اختيار جاكوبسون من قبل جو بايدن مديرةً لفرقة العمل الخاصة التابعة لوزارة الخارجية في أفغانستان، ومسؤولةً عن نقل الأفغان الذين كانوا يعملون مع القوات الأجنبية بعد سقوط كابول في أيدي طالبان، وهو ما كان سبباً في انتقادات بعض المعارضين لتقديمها سفيرةً جديدةً لدى العراق.
لماذا أرسل البيت الأبيض سفيرةً فوق العادة إلى بغداد؟
النقطة اللافتة في مهمة السفيرة الأمريكية الجديدة في العراق، هي وجود جاكوبسن في بغداد بلقب سفيرة "فوق العادة" أو "مفوضة"، والذي يمنح عادةً للشخص الذي يتولى المهام الخاصة لبلاده لدى الدول الأخرى أو المنظمات الدولية، وغالباً ما تمنح هذه القدرة لشخص يتمتع بقدرات استثنائية في القيام بمهمته.
والفرق الوحيد بين "السفير فوق العادة" و"السفير العادي"، هو أن الأخير يخدم غرضاً محدداً، في حين يتمتع الأول "بصلاحيات واسعة" ومخوَّل بالدخول في اتفاقيات مع البلد المضيف باسم الحكومة.
وهکذا، تتمتع جاكوبسن أيضًا بخبرة حصولها على امتياز سفيرة خاصة في حياتها المهنية من قبل، حيث شاركت في اتفاقيات ما بعد الحرب الأهلية في إثيوبيا، وفي إبرام العقود ورسم الإستراتيجية الجديدة للبيت الأبيض بعد الحرب.
إن منح هذه الصلاحيات للسفيرة الجديدة، أثار تساؤلات مختلفة لدى المراقبين والمحللين العراقيين، فهل تبحث السفارة الأمريكية في عام الانتخابات النيابية المبكرة عن مهندس التطورات السياسية العراقية، وحتى الانقلاب الانتخابي؟
وهل ستقود حملة اغتيالات؟ وبالنظر إلى التهديدات الأخيرة التي وجّهتها لقوى المقاومة، فهل ستتمكن السفيرة الأمريكية الجديدة من إدارة تصاعد المشاكل الاقتصادية، وتنظيم عقوبات مصرفية جديدة لخلق أزمة ضد الحكومة القائمة المدعومة من المقاومة؟ وهل تسعى جاكوبسن إلى تعزيز الموقف العسكري والأمني للقواعد الأمريكية في العراق عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وفي أعقاب حرب غزة؟
إدارة التوتر... من إحياء "داعش" إلى دعم النسوية والمثلية الجنسية
بعد رومانسكي، فإن جاكوبسن هي ثاني امرأة تذهب إلى بغداد كسفيرة، وبينما ثبتت مواقف جاكوبسن الداعمة للنسوية والمثلية الجنسية من قبل، فإن الخبراء يربطون هذا الاختيار بخطط أمريكا للوضع الحالي في العراق.
وفي هذا الصدد، يرى الخبير العراقي صالح العكيلي: أن "تغيير السفيرة الأمريكية في العراق، وتعيين امرأة سفيرة فوق العادة، يؤكد وجود استراتيجية جديدة من قبل الحكومة الأمريكية تجاه العراق، وفي الوقت نفسه، تسعى السفيرة الجديدة المعروفة بدعمها للمثليين، إلى تفعيل الجانب الطائفي وإدارة الصراعات".
ويضيف: "من المتوقع أن تكون هذه السفيرة مسؤولةً عن الكثير من التدخلات في الشؤون الداخلية، ونطاق أوسع للتأثير على الوضع السياسي في العراق، من أجل زعزعة الأمن والتأثير على ثقافة المجتمع العراقي".
واعتبر هذا الخبير انتخاب السفيرة الجديدة مؤشراً للأزمات الجديدة التي تريد أمريکا إثارتها في العراق، وأكد: أن "واشنطن التي وعدت سابقاً بالتخلي عن الدعم السياسي للحكومة العراقية، تفكر الآن في تغيير خططها من خلال دعم الانقسام الداخلي، وتفعيل الجماعات الإرهابية لزعزعة استقرار الوضع الأمني".
هذه النظرة والتحليل التشاؤمي للمهمات الجديدة للسفيرة الأمريكية في العراق، انعكست ضمناً على مواقف جاكوبسن قبل سفرها إلى بغداد واستقرارها في المنطقة الخضراء.
ففي جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ يوم الخميس الماضي، أشارت جاكوبسون إلى التهديد الذي يشكله "داعش" على العراق، وتحدثت عن خططها للاجئين في مخيم الهول بسوريا.
وقالت: إن مخيم الهول شمال شرق سوريا، الذي يضم عوائل مقاتلي "داعش"، يمكن أن يكون "مكان تجنيد للإرهاب"، ووعدت جاكوبسون بالعمل على إغلاق المخيم، ونقل النساء والأطفال "بسرعة أكبر إلى العراق لإعادة تأهيلهم وإدماجهم".
تأتي هذه المواقف المشبوهة، بينما منذ استشهاد اللواء سليماني وأبو مهدي المهندس كقادة عمليات هزيمة "داعش" في العراق، فإن الشعب والسياسيين العراقيين، ورداً على جريمة أمريكا النكراء واستناداً إلى القرار القانوني الصادر عن البرلمان، يطالبون بالإجماع بالانسحاب الكامل لقوات هذا البلد العسكرية من الأراضي العراقية، لكن البيت الأبيض يرفض الانصياع لمطالب الحكومة العراقية، متذرعاً بتحركات فلول "داعش".
وقد دفع هذا الإجراء العديد من المسؤولين العراقيين، إلى القول إن تحركات فلول "داعش" تتماشى مع خطط الولايات المتحدة المزعزعة للاستقرار، لتبرير استمرار وجود جيشها في هذا البلد، وخاصةً أن إدارة المعسكرات والسجون التي يحتجز فيها عناصر "داعش" والتكفيريين في شمال وشمال شرق سوريا، تقع تحت سيطرة الميليشيات الكردية المتحالفة مع واشنطن، وقد حذرت حكومتا سوريا وروسيا مراراً وتكراراً من إطلاق سراح هذه العناصر بشكل متعمد، باعتباره تحدياً أمنياً يتعلق بالوجود العسكري للاحتلال الأمريکي.
ومن خلال الادعاء بالمساعدة في تحسين الوضع الاقتصادي في العراق، أثارت جاكوبسون أيضًا قضيةً مهمةً تتمثل في استمرار سيطرة الولايات المتحدة على النظام المصرفي والنقدي في العراق، وقالت: سأدعم العمل المهم الذي تقوم به وزارة الخزانة لتحديث القطاع المالي في العراق وربطه بالنظام المالي الدولي، الأمر الذي سيقضي على قدرة إيران على استخدام البنوك العراقية.
إن معنى هذه التصريحات، في حين تعتبر إيران الشريك التجاري الأكبر للعراق، وبالإضافة إلى العلاقات التجارية الواسعة والرغبة في تعزيز التعاون الاقتصادي من قبل الجانبين، فإن طهران تعدّ أيضًا أهم مورد للغاز والكهرباء المستوردة إلى العراق، هو تخطيط السفارة الأمريكية لمزيد من التدخل والتعطيل في التجارة الخارجية للعراق، ومحاولة السيطرة بشكل أكبر على النظام النقدي والمصرفي في البلاد، وهو ما يمكن أن يكون له في حد ذاته تأثير مدمر على خطط الحكومة التنموية والاقتصادية لتحسين قطاع الخدمات، وهو مطلب عام مهم.
بشكل عام، يبدو أن انتخاب السفيرة المفوضة يهدف إلى خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، واستمرار سياسة إدارة التوتر في العراق.