الوقت- نشرت مؤخراً وكالة بلومبيرغ الأمريكية تقريراً مثيراً بعنوان “مصر للبيع” يتناول الحديث عن الصفقات المثيرة للجدل والتي عقدتها مصر في الآونة الأخيرة مع دول خليجية وكان آخرها صفقة “رأس الحكمة” التي ملأت الدنيا وشغلت المحللين، لكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه لماذا استخدمت “بلومبيرغ” هذا الوصف القاسي؟ هل هناك رسائل مبطنة تريد بلومبرغ إيصالها من خلال هذا المقال المثير أم إنها مجرد محاولة للفت أنظار القراء فحسب؟
جدل صاخب
أثار تقرير الوكالة الأمريكية الشهيرة غضب الإعلام المصري الذي أكد أنه تقرير يأتي ضمن حروب الجيل الخامس، والتي تعتمد على نشر شائعات دون التحقق منها، أو الرجوع إلى مصادرها الرسمية أو حتى الإحصاءات التي تصدرها مؤسسات خارجية وتؤكد أهمية هذه الاستثمارات، التي تعكس مدى قوة الاقتصاد المصري وصموده في ظل التحديات الدولية.
وفي هذا السياق، انتشرت حالة من الجدل الصاخب إثر التقرير والردود المصرية عليه أقنعت قوما، وأقلقت آخرين، متسائلين عن سبب نشر الوكالة مثل هذا التقرير وسبب اختيارها لهذا العنوان القاسي وهل اطلعوا على عقود لم تعلن للرأي العام المصري؟
من جهته قال الباحث والمفكر عمار علي حسن: إن الناس في مصر آلمهم أن تقول بلومبيرغ “مصر للبيع”، مشيرا إلى أنها عبارة غاية في القسوة، تحيلها هذه المنصة الاقتصادية العالمية الشهيرة إلى انسداد الأبواب أمام السلطة الحالية لتسديد ديونها، وإكمال مشروعات ضخمة غير إنتاجية أطلقتها، إلا بيع الأصول من أرض ومبان حكومية ومصانع وشركات، ارتبطت بالدولة والمجتمع في مصر طويلا، إذ يعود بعضها إلى مئة وخمسين عاما، وقال إن سلطة أوصلت حالنا إلى عبارة “مصر للبيع”، حتى لو كان ادعاء وزعما وضغطا سياسيا مكشوفا، لا يحق لها أن تحدثنا عن إنجاز، مؤكدا أنه لا دخان دون نار، والشمس لا يمكن أن يحجبها غربال التنصل والدعايات الزائفة.
شعبياً تساءل الشارع المصري كثيراً عن السر وراء هذه الصيغة نادرة الاستخدام في الميديا الاقتصادية في العالم، مؤكدين أن وراء أكمة بلومبيرغ ما وراءها، حيث عبر أحد الغاضبين من الوضع الاقتصادي عن مرارته من قطع الكهرباء عن الناس ساعتين يوميا فى بلد منتج للغاز، إضافة لقطع المياه عدة ساعات يوميا.
وقال إن الشعب الذي يعاني من ويلات تضخم مطعم بالفساد والمافيا المسيطرة على كل السلع هو أقرب إلى البيع.
السيادة الوطنية المصرية محل تساؤل؟
أثار منح مصر للإمارات ميناء ومطارا ومنطقة حرة في مشروع رأس الحكمة على ساحل البحر المتوسط عددا من التساؤلات بخصوص طبيعة العلاقة بين الدولتين وتأثير ذلك على السيادة الوطنية لمصر.
فيما حظيت هذه الخطوة بالترحيب في عدد من الأوساط بسبب الفرص الاقتصادية التي قد تحققها لمصر، إلا أنها أثارت مخاوف في أوساط أخرى بخصوص السيادة الوطنية والتبعات الجيوسياسية المحتملة، حيث إن هذا المشروع يمنح دولة الإمارات مساحة ضخمة أكبر من مساحة العديد من الإمارات السبع خارج أراضيها، وتجدر الإشارة إلى أن إمارة دبي تعد الثانية في الإمارات السبع من حيث المساحة والتي تقدر بـ 4,114 كيلومترات مربعة فقط، والتي تشكل 5 في المئة من مساحة الدولة من دون الجزر.
وتعود التساؤلات في هذه الصفقة إلى حجم المشروع أولاً حيث إن مشروع رأس الحكمة يُعد من أكبر المشاريع الاستثمارية في مصر، حيث يُغطي مساحة 20 ألف فدان، ومن جهة أخرى فالامتيازات الممنوحة تعتبر هي الأخرى من الأمور المثيرة للتساؤل حيث إن الاتفاقية الموقعة بين مصر والإمارات العربية المتحدة تمنح للمشروع امتيازات واسعة، مثل الإعفاء من بعض الضرائب والرسوم، والحصول على تراخيص سريعة، وإمكانية إنشاء محاكم خاصة لحل النزاعات، بالإضافة لتمتع هذه الاتفاقية بالحصانة الأمنية للمستثمرين، ما يعني عدم خضوعهم للقوانين المصرية في بعض الحالاتن ويرى منتقدو المشروع أن هذه الامتيازات والحصانة تُشكل تهديدًا للسيادة المصرية، وتخلق دويلة داخل دولة لا تخضع للقوانين المصرية، ويخشى البعض من أن يُؤدي المشروع إلى سيطرة الإمارات على مقدرات مصر، وتحويلها إلى وجهة سياحية فقط.
دويلة مستقلة داخل مصر
الامتيازات الممنوحة في اتفاقية رأس الحكمة ستمنح دولة الامارات السيطرة على أرض رأس الحكمة وعلى بحرها وبذلك ستكون لدولة أجنبية بالمعنى الفعلي، ومفهوم الدولة الأجنبية في الدستور المصري وفي التعريف السياسي هو أي دولة أو سلطة أخرى لها قوانين ودستور خاص بها، وبالتالي فإن دولة الإمارات هنا تعتبر دولة أجنبية
ومن جهة أخرى فإنه من شأن الامتيازات الحصرية التي سوف يحصل عليها مشروع رأس الحكمة والتابع لدولة الإمارات مثل منطقة حرة وميناء ومطار أن يجعلها صاحبة نفوذ وسيطرة ولا يمكن منع أي سفينة أو يخت أو مركب من دخول مياه مصر الإقليمية، والتي ستأتي تحت ستار السياحة وإن كانت غير ذلك فلا يمكن منعها وإلا ستكون قد منعت الشركة أو الدولة صاحبة الامتياز من الاستفادة من المشروع وهو ما يعتبر مخالفاً لبنود الاتفاقية في هذه الحالة ويضع طرفي الاتفاق في أزمة.
إن منح أي دولة مهما كانت سيادة مطلقة على جزء من أراضي البلاد وخاصة الساحلية يعتبر من الأمور الخطيرة للغاية وتشير لقصر نظر فيما يخص مسائل الجغرافيا السياسية ولنا في أمريكا مثال حيث أرادت شركة موانئ دبي من خلال الاستحواذ على شركة بي آند أو البريطانية بإدارة بعض أرصفة الحاويات في عدد من الموانئ الأمريكية ولكن تمت معارضتها ورفضها بقوة عام 2007 دون العودة إليها مجددا.
بشأن عام يعتبر مشروع رأس الحكمة مشروعاً سلبياً بالنسبة لمصر في مجمله، حتى من القيمة المالية، وهو مشروع سياسي وليس اقتصادياً، حيث إن منح الحكومة المصرية للإمارات ميناء ومطاراً ومنطقة حرة من المؤكد سوف ينجر بفقدان جزء من السيادة الوطنية لمصلحة دولة أخرى، ما يثير القلق بشأن استقلالية القرار ودرجة الشفافية والمشاركة الشعبية في هذه الصفقات، ولا يمكن التعويل على بيانات الحكومة لأنها مضللة وغير شفافة وتتخذ قراراتها للهروب من الأزمة على المدى القصير ولا تفكر في تبعات هذه القرارات على المدى الطويل.
تراجع تحت الضغط
في آخر تحديث في قضية المقال المنشور أدى تدخل الهيئة العامة للاستعلامات في مصر إلى تراجع وكالة أنباء "بلومبرغ" عن بعض الأخبار وتصحيح ما نشرته عن الاقتصاد المصري.
وفي هذا السياق قالت الهيئة: إن بلومبرغ سحبت وألغت منشورات سبق أن بثتها على صفحات التواصل الاجتماعي التابعة لها ونشرت بدلا منها نصوصا مصححة، موضحة أن تراجع وتصحيح بلومبرغ جاء عقب تدخل مباشر من جانب هيئة لإبداء الاعتراض على عناوين ومضمون منشورات الوكالة.
