الوقت – فيما بدأت الكثير من المناقشات والجدل في الأوساط السياسية والإعلامية الإقليمية والدولية، حول أهداف واشنطن الدعائية والخفية من الإعلان عن خطة لبناء رصيف مؤقت في ميناء غزة، لإرسال المساعدات الغذائية والإنسانية إلى هذا القطاع، يرى بعض الخبراء في هذا الصدد أن خطة البيت الأبيض بشأن الميناء، هي في الأساس سيناريو صهيوني وقديم تمامًا لغزة، وقد تم طرحه الآن على جدول الأعمال بذريعة جديدة ومحسنة؛ وهو المشروع المعروف بمشروع "قناة بن غوريون".
مشروع قناة بن غوريون
بينما عارض الکيان الإسرائيلي أي طلب لوقف إطلاق النار، واقترح خططاً مختلفةً للحفاظ على موقعه العسكري على المدى الطويل وإدارة القطاع، يرى البعض أن التقارير التي نشرت حول علم أجهزة المخابرات والأمن التابعة للکيان بهجوم الـ7 من أكتوبر وعدم التصدي له، كانت جزءاً من سيناريو طرد الفلسطينيين من غزة، وخاصةً من الشمال، تنفيذاً لمشروع بن غوريون، وخاصةً أن هذا المشروع لم يولد اليوم، والصهاينة كانوا يبحثون عنه منذ الماضي.
تعود خطة هذا المشروع إلى ديفيد بن غوريون، المؤسس والأب الروحي لـ "إسرائيل" وأول رئيس وزراء لهذا الکيان، والتي تم اقتراحها في الستينيات، وتهدف إلى إنشاء طريق بديل لقناة السويس، من خلال ربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط من الطرف الجنوبي لخليج العقبة.
وحسب المعلومات المتوافرة، فإن هذا المشروع يبدأ من خليج العقبة بالقرب من الحدود الإسرائيلية الأردنية، ويستمر عبر وادي عربة الواقع بين جبال النقب والمرتفعات الأردنية على بعد حوالي 100 كيلومتر من الغرب والشمال، وللوصول إلى البحر الأبيض المتوسط فإنه يمرّ عبر قطاع غزة.
ويرى رفيق عوض، المحلل السياسي الفلسطيني، في هذا الصدد: "قد يكون الاقتراح الأمريكي خطوةً نحو إنشاء قناة بن غوريون، حيث توجد حقول غاز بالقرب من ساحل غزة، وربما تحاول إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاؤها الاستفادة من الحرب المستمرة، وكذلك التغيرات الجيوسياسية".
جدير بالذكر أن حقل غزة البحري تم اكتشافه لأول مرة عام 1999، وفي عام 2021 وقّع صندوق الاستثمار الفلسطيني والحكومة المصرية مذكرة تفاهم بهدف تطوير هذا الحقل، لكن الکيان الإسرائيلي منع الفلسطينيين من الاستفادة من فوائد هذا الحقل الغازي.
من المؤكد أن تنفيذ قناة بن غوريون يقع في قلب التغيرات الجيوسياسية المرغوبة، التي يسعى إليها الصهاينة والغرب، في عام 1963، اقترح المختبر الأمريكي لورانس ليفرمور سيناريو يتم من خلاله استخدام 520 تفجيرًا نوويًا لحفر قناة، ولم يتم نشر هذه الوثيقة السرية حتى عام 1993.
وجاء في الوثيقة المحذوفة أن "مثل هذه القناة ستكون بديلاً ذا قيمة استراتيجية لقناة السويس الحالية، ومن المرجح أن تساهم بشكل كبير في التنمية الاقتصادية للمنطقة المحيطة".
وفي هذا الصدد، يقول رفيق عوض: "في حين أن إنشاء الرصيف يقلل من أهمية معبر رفح، فإنه إذا تم بناء قناة بن غوريون، فإن قناة السويس ستفقد معناها، وهذا يضر بمصالح مصر وهيمنتها ونفوذها ومستقبلها".
حاليًا، يتم الاتصال بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط من خلال قناة السويس فقط، وهي ممر مائي صناعي للشحن المباشر بين شمال المحيط الأطلسي وشمال المحيط الهندي، ما يقلل مسافة ووقت وتكلفة السفر، وفي الوقت الحاضر، يتم تنفيذ ما يقرب من 12% من التجارة العالمية عبر هذا الطريق.
واعتبرت اتفاقية القسطنطينية الدولية -التي وقعتها القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت عام 1888- قناة السويس ممراً مائياً دولياً يضمن استخدام هذا الطريق لجميع السفن في زمن الحرب والسلم.
ومع ذلك، بعد تأميم قناة السويس في عام 1956 من قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، منعت القاهرة وصول الکيان الصهيوني إلى هذه القناة في عدة مناسبات.
وبعد قيام الکيان الصهيوني في يوم النكبة، لم تسمح مصر للسفن الإسرائيلية بالمرور عبر قناة السويس من عام 1948 إلى عام 1950، ما أثّر على تجارة الکيان مع دول شرق أفريقيا وآسيا، وأعاق قدرته على استيراد النفط من منطقة الخليج الفارسي، كما تم إغلاق قناة السويس أمام الصهاينة لمدة ثماني سنوات أخرى في عام 1967 بعد حرب الأيام الستة.
في هذه الأثناء، وبسبب العزلة الجيوسياسية التاريخية واعتماد أكثر من 90% من التجارة الخارجية للکيان الإسرائيلي على البحر، سعى الصهاينة منذ فترة طويلة إلى تقليل الاعتماد على ممر السويس المائي، وحتى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وخاصةً أن تطورات عقد من الزمان في اليمن أدت إلى تشكيل حكومة بقيادة أنصار الله كحليف جديد لمحور المقاومة في المنطقة، وهو ما جلب المزيد من التحديات لأمن التجارة البحرية للکيان.
ولذلك، فإن إنشاء قناة بديلة لقناة السويس، وخاصةً قناة يديرها الصهاينة، بالإضافة إلى الفوائد الأمنية والجيوسياسية التي ستزيل نفوذ الضغوط المصرية على الکيان الإسرائيلي، سيعود أيضًا بفوائد اقتصادية كبيرة على تل أبيب، وذلك بسبب السيطرة على طرق الإمداد العالمية للنفط والحبوب والشحن، وسيكون تهديداً مالياً كبيراً لمصر.
كما نعلم، فإن قناة السويس هي القناة الرئيسية التي تربط قارتي أوروبا وآسيا، وهي المسؤولة عن معظم وسائل النقل التجاري بين القارتين، ويجني المصريون دخلاً كبيراً من قناة السويس كل عام، يصل إلى 9.4 مليارات دولار أمريكي في العام المالي 2022-2023، وحسب التقديرات الصهيونية حول هذا المشروع، فإن الکيان الإسرائيلي سيجني نحو 6 مليارات دولار سنوياً من رسوم العبور.
بالطبع، لم تطرح خطة بن غوريون بين عشية وضحاها، بل سبق للصهاينة أن أعلنوا في ما تسمى اتفاقات أبراهام للتطبيع في 2 أبريل 2021 (بين الکيان الإسرائيلي والمغرب والسودان والبحرين والإمارات العربية المتحدة)، أنهم سيبدؤون هذا المشروع في يونيو 2021، إلا أنه لم يتم تنفيذه، ويعتبر الاستراتيجيون الغربيون والصهاينة وجود قطاع غزة أحد الأسباب الرئيسية.
ورغم أن الولايات المتحدة تقيم علاقات استراتيجية مع مصر، وتدرك حساسية هذه القضية بالنسبة للقاهرة، وحتى الدول الأوروبية قالت إنه "لا يوجد بديل لقناة السويس"، ولكن لعدة أسباب يمكن الحديث عن قبول الدول الغربية لمشروع بن غوريون.
أولاً، بالنسبة للغربيين، فإن وجود طريق سريع دولي تحت سيطرة الحليف الرئيسي للغرب والولايات المتحدة في المنطقة، سيكون أكثر أماناً من الاعتماد الدائم على مصر، التي أقامت علاقات وثيقة مع الصين وروسيا في السنوات الأخيرة.
ولا يقتصر الأمر على أن مصر لديها تعاون عسكري وسياسي قوي مع روسيا، وعززت التجارة بشكل متزايد مع هذا البلد على الرغم من العقوبات الغربية واسعة النطاق ضد موسكو بسبب الحرب الأوكرانية، بل ستنضم القاهرة رسميًا أيضًا إلى البريكس في أوائل عام 2024.
وتخشى الدول الغربية من أن تصبح مجموعة البريكس منافساً جدياً في طريق الهيمنة على التجارة العالمية، وفي هذا الصدد، تتمتع مصر بعلاقات قوية مع الصين أيضًا.
وفي عام 2014، وقّعت مصر والصين "اتفاقية شراكة استراتيجية"، من شأنها أن تعزز تعاونهما في المجالات العسكرية والاقتصادية والتجارية، وسيترافق هذا التعاون مع قدر كبير من الاستثمارات الصينية في مصر، وبالتالي من المحتمل أن يدعم تطوير المشروع الضخم، أي طريق الحرير الصيني، وهذه القضية تثير قلقاً متزايداً بالنسبة للولايات المتحدة والدول الأوروبية.
هذه الدول تشعر بالقلق من أن العلاقات القوية بين مصر وروسيا والصين، ستدمر الهيمنة الاقتصادية والتجارية للغرب، ولذلك اتجهت إلى الدعم الكامل لاستمرار جرائم الکيان الصهيوني في غزة، حتى ينجح هذا الکيان في تمهيد مسار مشروع قناة بن غوريون.
ومن ناحية أخرى، فإن قناة السويس القائمة تعاني من عدة نقاط ضعف، ولها قيود مهمة على مرور سفن الحاويات العملاقة، ففي مارس 2021، توقفت سفينة الحاويات "إيفر غيفن" في قناة السويس بسبب الرياح القوية.
ورغم أن توقف القناة لم يدم طويلاً، إلا أن هذه الفترة القصيرة التي دامت بضعة أيام، جلبت أيضاً خسائر فادحة تعادل 9.6 مليارات دولار، ويتبين من هذا أن الدول الغربية تريد تقليل اعتمادها على مصر، التي تتمتع بالسيطرة الكاملة على قناة السويس.
إن إثبات دعم الغرب للمشروع الصهيوني في غزة ليس بالأمر الصعب، لأن تسليم المساعدات الإنسانية بالشاحنات عبر حدود رفح، أسرع وأرخص بكثير من بناء رصيف الميناء الذي يستغرق وقتًا طويلاً، وبتكلفة مئات الملايين من الدولارات، کما انتقد مسؤولو المساعدات في الأمم المتحدة هذه الخطة، وقالوا إن الطريقة الأكثر فعاليةً لمساعدة غزة هي حدود رفح.