الوقت - كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية على أعلى المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية لأكثر من سبعة عقود، منذ أول اتصال خلال رئاسة فرانكلين روزفلت في منتصف القرن العشرين، لكن الوضع اليوم مختلف عن الماضي، والعلاقات بين البلدين لا تشبه تلك الفترة الذهبية.
على الرغم من أن دور المكونات الاستراتيجية مثل التحول في تركيز السياسة الخارجية الأمريكية إلى شرق آسيا، واستياء السعودية من السياسة الإقليمية لحكومات واشنطن في العقدين الماضيين، كان بمثابة زلزال مدمر في انهيار هذا التحالف التاريخي، لكن توجه سياسات البيت الأبيض تجاه قضايا حقوق الإنسان في عهد جو بايدن، زاد من سرعة هذا الانهيار، لدرجة أن الإدارة الديمقراطية في واشنطن الآن تدق كل باب لاستعادة العلاقات بين البلدين قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
لذلك، استمرارًا لإرسال البيت الأبيض شخصيات سياسية وأمنية بارزة إلى السعودية في الشهرين الماضيين لإعادة العلاقات، أوفد البيت الأبيض مرةً أخرى مسؤولًا رفيع المستوى إلى السعودية.
في الأيام الأخيرة، تم إرسال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، إلى السعودية للتحدث مع محمد بن سلمان، حتى تحدث هناك انفراجة في العلاقات المتوترة بين البلدين.
وفقًا لبيان البيت الأبيض، ركزت مناقشات سوليفان وابن سلمان على المبادرات الجارية لتعزيز الرؤية المشتركة لشرق أوسط أكثر سلامًا وأمانًا وازدهارًا واستقرارًا، والجهود المبذولة لإنهاء الصراع المستمر منذ سنوات بين السعوديين وأنصار الله في اليمن.
كما أفادت وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس)، بأن الجانبين بحثا العلاقات السعودية الأمريكية والعلاقات الاستراتيجية وسبل تعزيزها في مختلف المجالات، وآخر المستجدات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن مسؤول في الأمن القومي بالبيت الأبيض، قوله إن سوليفان وابن سلمان ناقشا المسار المحتمل لتطبيع العلاقات بين السعودية والكيان الإسرائيلي.
تعدّ زيارة سوليفان إلى السعودية، وهي ثاني لقاء له مع المسؤولين السعوديين في الأشهر الثلاثة الماضية، استمرارًا لسلسلة زيارات كبار مسؤولي البيت الأبيض إلى السعودية، حيث إنه قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ومدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز، بمثل هذه الزيارة لإنهاء سوء التفاهم بين البلدين في العام الماضي، لكن نتائج التطورات تشير إلى أن البيت الأبيض لم يحصل على أي نتائج من هذه الزيارات.
إن حقيقة أن الاجتماع بين ابن سلمان وسوليفان عُقد خلف أبواب مغلقة، ولم تُنشر صور لهذا الاجتماع، تُظهر أنه إضافة إلى ما تناقلته وسائل الإعلام، أثيرت قضايا أخرى بين مسؤولي البلدين.
الخلافات وآفاق العلاقات الثنائية
على الرغم من أن الخلافات بين السعودية والولايات المتحدة أصبحت علنيةً بشكل أكبر في العامين الماضيين، ولكن كان هناك تضارب في المصالح بين البلدين في القضايا الإقليمية في الماضي أيضًا.
أول معارضة للسعودية لسياسات الولايات المتحدة الإقليمية، كانت في حرب العراق الثانية عام 2003، عندما قال نواز بن عبد العزيز، رئيس جهاز الأمن السعودي آنذاك، إن حكومة العراق قضية داخلية، والرياض تعارض أي تدخل في العراق، ومنذ ذلك الحين، أججت قضايا أخرى الخلافات بين الجانبين، إلى أن اشتدت الخلافات بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
إحدى القضايا الخلافية هي الحرب في اليمن، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة دعمت التحالف السعودي بقوة في بداية الحرب في اليمن، إلا أنها غيرت سياستها إلى حد ما بعد أن تولى بايدن السلطة، وباتخاذ لفتة إنسانية تحاول إقناع الرياض بإنهاء الحرب في اليمن، وقد أضر هذا الموضوع في مرحلة ما بالعلاقات بين الجانبين، ما أدى إلى تقليص الدعم العسكري وسحب أنظمة صواريخ باتريوت من السعودية.
كما تضغط واشنطن على السعوديين لزيادة إنتاجهم النفطي بعد الحرب في أوكرانيا، التي أدت إلى أزمة طاقة في الغرب بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز العالمية، لكن في هذا الاتجاه تتخذ الرياض أيضًا خطوات ضد إرادة أمريكا.
وحتى في أكتوبر 2022، عندما أعلنت السعودية قرارها بخفض إنتاج النفط في شكل أوبك بلس، اشتدت التوترات بين الرياض وواشنطن، وطالب نواب الكونغرس بتقليص العلاقات ووقف المساعدات العسكرية للسعودية.
والقضية الأخرى التي ألقت بظلالها على العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة، هي انتقادات حقوق الإنسان لإدارة بايدن لسياسات ابن سلمان، وخاصةً في قضية مقتل جمال خاشقجي، الصحفي الناقد للسعودية، الذي قال بايدن شخصيًا إنه سيعاقب ابن سلمان، وحكام الرياض غاضبون من أن واشنطن دائماً ما تضرب بمطرقة حقوق الإنسان على رؤوسهم.
ومن الخلافات بين الرياض وواشنطن، التي حاول المسؤولون الأمريكيون التقليل من شأنها، قضية تطبيع العلاقات السعودية مع سوريا، الأمر الذي أثار قلق الغرب، لقد حاول قادة البيت الأبيض جاهدين إبعاد الدول العربية عن تطبيع العلاقات مع دمشق، لكنهم فشلوا في هذا الملف أيضًا، والاختلاف في وجهات النظر السياسية بشأن القضايا الإقليمية يتزايد يوماً بعد يوم.
بالنظر إلى حجم الخلافات بين السعودية والولايات المتحدة، فإن رغبة بايدن في تحسين العلاقات الثنائية عديمة الجدوی، لأنه في العامين الماضيين توصلت الدول العربية إلى يقين من أن الهيمنة الأمريكية آخذة في التراجع، ولم تعد ترى أنه من المستحسن إحالة الأمن إلى هذا البلد، ويعتقدون أن الصين الآن تحاول الاستيلاء على مكانة واشنطن، ولهذا الغرض فإنهم يميلون نحو الشرق، واتفاقيات التعاون طويلة الأمد بين العرب والصين في العام الماضي دليل على ذلك.
تسعى أمريكا إلى إبعاد العرب عن الصين وروسيا، ومن أجل كسب ثقة حلفائها، عززت وجودها العسكري في الخليج الفارسي لتوجيه رسالة إلى الحكام العرب، بأنها لم تتخل عنهم ويمكنها الدفاع عن مصالحهم ضد التهديدات، لكن الوقت متأخر لتنفيذ مثل هذه التحركات الشكلية، والعرب يتحركون في اتجاه التباعد عن الغرب والتقارب مع الشرق، ولا شيء يمكن أن يشكل عقبةً في هذا الاتجاه.
السعي من أجل التطبيع بين الرياض وتل أبيب
بعيدًا عن العلاقات الثنائية، فإن أهم ما أثير في المحادثات بين المسؤولين الأمريكيين والسعوديين في السنوات الأخيرة، هو تطبيع العلاقات بين هذا البلد والکيان الصهيوني، الأمر الذي لم يسفر عن نتائج حتى الآن رغم الجهود المكثفة.
إن اتفاقية تطبيع العلاقات بين الکيان الإسرائيلي والسعودية، بصفتها أقوى وأغنى دولة عربية، من شأنها تغيير شكل المنطقة وتعزيز مكانة الکيان، لكن الوساطة في مثل هذا المشروع عبء ثقيل، لأن حكام الرياض اشترطوا أي تطبيع بتنفيذ "حل الدولتين".
بنيامين نتنياهو نفسه، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، قد صرح بوضوح مرات عديدة أن هذا الکيان لن يوافق أبدًا على إقامة دولة فلسطينية، إضافة إلى ذلك، مع الأعمال الاستفزازية للوزراء الصهاينة المتطرفين في القدس والمسجد الأقصى في الأشهر الأخيرة، لا تريد السعودية تطبيع العلاقات.
بالنظر إلى أن أوضاع الأراضي المحتلة ملتهبة للغاية بسبب سياسات المتطرفين، تحاول الإدارة الأمريكية القضاء على جزء من التحديات الأمنية لهذا الکيان في المنطقة من خلال ربط السعودية بالکيان الصهيوني، لأن تحول السعوديين نحو تل أبيب سيمهد الطريق لتطبيع العلاقات مع العرب الآخرين، كما قال نتنياهو في وقت سابق إن الاتفاق مع السعودية سينهي التوتر العبري العربي.
من ناحية أخرى، تضغط السعودية بشكل متزايد على واشنطن لبناء محطة للطاقة النووية لتخصيب اليورانيوم في السعودية، لكن السلطات الصهيونية عارضت بشدة هذه القضية، وهذه إحدى العقبات الرئيسية في طريق التطبيع.
تعارض الولايات المتحدة و"إسرائيل" هذا المطلب منذ سنوات، وتزعمان أنه مع انتشار الأسلحة النووية للدول العربية إلى جانب إيران، سيبدأ سباق تسلح نووي في غرب آسيا ويعرض أمن المنطقة للخطر، هذا في حين أن الکيان الصهيوني، باعتباره الحائز الوحيد للأسلحة النووية في المنطقة، هو أكبر تحدٍّ أمني في الشرق الأوسط يهدد السلام والاستقرار.
تأتي الزيارات المتكررة لمسؤولي واشنطن إلى السعودية في الأشهر الأخيرة، في وقت تبدأ فيه حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد ثلاثة أشهر، ويحتاج بايدن، الذي يرى الحفاظ على مقعده الرئاسي في خطر، إلى دعم حلفائه الأثرياء للفوز في الانتخابات مرةً أخرى.
على الرغم من أن السعوديين أظهروا قدرتهم على العمل بشكل أفضل مع الجمهوريين، إلا أن إدارة بايدن لا تزال تحاول الحصول على دعم الرياض وتحسين وضعها السياسي مع السعوديين، وحل أزمة الطاقة في الغرب جزئيًا، ولتحقيق هذا الهدف تنتظرها مهمة صعبة.