الوقت - تتسم العلاقة المغربية الفرنسية بعدم الاستقرار الكلي، فقد تراوحت بين الارتباط الوثيق بالحوار المكثف والتعاون، والتأزم والاتجاه نحو ما يشبه القطيعة السياسية.
واتجهت العلاقة الثنائية نحو التنسيق والارتباط الوثيق مع زيارة الملك محمد السادس فرنسا في أول زيارة دولة له في آذار/مارس 2000، إذ بدأت هذه العلاقة بالانتعاش منذ وسط تسعينيات القرن العشرين، بعد أن شهدت أزماتٍ عاصفة في ستينيات القرن عندما استدعت باريس سفيرها في الرباط احتجاجا على اختطاف المعارض المغربي اليساري البارز، المهدي بن بركة من داخل أحد مقاهي باريس، واختفاء مصيره. وفي التسعينيات، حرّضت الرباط مواطنيها على شن حملة إعلامية ضد باريس، عبر رسائل شخصية مرسلة مباشرة إلى قصر الإليزيه للاحتجاج على صدور كتاب "صديقنا الملك" للصحفي الفرنسي جيل بيرو الذي فضح فيه بشاعة السجون السرّية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
لكن هذه العلاقة عادت منذ سنة تقريباً لتعيش حالة من التدهور، إذ اتهمت وسائل الإعلام المغربية الساسة الفرنسيين بالوقوف وراء القرارات المناهضة للمغرب في البرلمان الأوروبي الذي أدان المغرب في مجال حقوق الإنسان، واتهمه بالوقوف وراء فضيحة الفساد التي هزّت المؤسسة التشريعية الأوروبية، الأمر الذي أزعج الرباط، وأثار قلقها ضد البرلمانيين الأوروبيين الفرنسيين، وخصوصا الذين تعودت وقوفهم إلى جانبها.
واتهم الإعلام الفرنسي الرباط بممارسة سياسة الابتزاز للضغط على باريس في مواضيع حسّاسة، مثل موضوع الهجرة وتصدير القنّب الهندي الذي يعتبر المغرب أكبر منتج له في العالم وفي مجال التعاون الأمني، بدعوى أن المغرب يملك شبكة أمنية نافذة داخل الجالية المغاربية على التراب الفرنسي.
فالمغرب تحمّل الفرنسيين مسؤولية تدهور العلاقات، وتتهم وسائل الإعلام المقرّبة من السلطة فرنسا بالوقوف وراء كل المشكلات التي تعرفها بلادهم، فيما يلتزم القصر المغربي صمتا مطمئنا، رغم تلميح الملك محمد السادس، في أحد خطاباته إلى ضبابية الموقف الفرنسي بخصوص قضية الصحراء التي أصبحت بمثابة عقيدة وطنية، يبني عليها النظام قراراته الاستراتيجية في علاقاته الدولية.
كما يعزو المسؤولون المغاربة الأزمة الحالية إلى عدة مواقف رسمية تتمثل في مقاربة باريس موضوع هجرة القاصرين المغاربة، وعدم دعم باريس العلني والرسمي للمبادرة المغربية لحل قضية الصحراء، إضافة إلى التقارب الذي يديره ماكرون مع الجزائر التي تجمعها علاقة ضدية بالمغرب.
الخلاف.. سوء الفهم والمعلومات الخاطئة
ينفي المسؤولون الرسميون الفرنسيون وجود أزمة بين البلدين، ويمدّون أيديهم لنظرائهم المغاربة فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن من جانب واحد، رغبته في زيارة المغرب، لكنه لم يتلقّ أي رد إيجابي من الرباط، فالعلاقة من زاوية الرباط ليست على ما يرام، فمنصب سفارة المغرب في باريس ما زال شاغرا، رغم رفعها القيود عن التأشيرات الممنوحة للمغاربة، وزيارة وزيرة الخارجية، كاترين كولونا، الرباط في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لاسترضاء المغاربة.
وقال السفير الفرنسي بالرباط، كريستوف لوكورتيي: "كان هناك بعض سوء الفهم بين بلدينا الذي دعا أو يستدعي تقديم توضيحات"، مشيراً إلى أنه "بشكل ملموس وفي أغلب الحالات لدينا علاقات جيدة وتؤتي ثمارها" ، ومبيناً متانة الروابط بين البلدين إذ إنها لم تتأثر على المستوى الاقتصادي، حيث لا تزال فرنسا صاحبة الصدارة في حجم الاستثمارات التي تستقبلها المملكة.
لكن ثمة آراء قللت من شأن تصريحات السفير الفرنسي التي “تسعى إلى تهدئة أجواء الأزمة بين البلدين”، وترى أن الخلافات بين باريس والرباط لا يزال لها تأثير عملي حتى على الصعيد الاقتصادي، حيث تم إلغاء زيارة مجموعة من رجال الأعمال الفرنسيين إلى المغرب في شهر حزيران (يونيو) الماضي.
وأكد إعلان الاتحاد العام لمقاولات المغرب أن تأجيل زيارة وفد “حركة مقاولات فرنسا”، الذي يمثل رجال الأعمال الفرنسيين الذين يسعون لاستكشاف فرص الاستثمار في المملكة، يعود إلى التوتر في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وللأسباب ذاتها ألغيت زيارة جوفروا رو دي بيزيو، رئيس جمعية أرباب العمل الفرنسية “ميديف”، إلى المغرب، وهذا له انعكاسات تعقد الوضع الدبلوماسي بين البلدين وتعزز التوترات القائمة بينهما، ما يؤثر على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الشركات الفرنسية والمغربية.
الروابط الاقتصادية
قال لوكورتيي: إن “العلاقات الاقتصادية بين المغرب وفرنسا فريدة من نوعها على مدار العقود الماضية”، مضيفاً أن “المغرب أول مستثمر إفريقي بفرنسا في 2022، ما يجعل فرنسا الدولة الأكثر جاذبية في أوروبا بالنسبة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر”، ومشيراً إلى أن “عدد المقاولات والشركات الفرنسية بالأراضي المغربية يتجاوز 1300”.
فالمغرب كما قال لوكورتيي "شريك أساسي لفرنسا، بالنظر إلى الاستقرار السياسي الذي يتوفر عليه بالمقارنة مع المنطقة”، لافتا إلى أن “المغرب يوفر للشركات الأجنبية يدا عاملة مؤهلة تواكب المستجدات العالمية، إلى جانب القوانين الاستثمارية التي تشجع الشركات والمقاولات الأجنبية على الاستقرار بمدنه الكبرى”.
وأضاف لوكورتيي إن “استراتيجية الطرفين تبنى على أساس مبدأ رابح-رابح، وهو ما جعل المغرب فضاء اقتصاديا استراتيجيا بالنسبة إلى القارة الأوروبية، اعتباراً لموقعه الجغرافي المحوري بالعالم، وكذا العلاقات التاريخية بينهما”.
وأوضح لوكورتيي أن “الطاقات المتجددة قطاع حيوي يجذب اهتمام فرنسا بالمملكة المغربية التي أصبحت رائدة في المجال خلال العشرية الأخيرة”، مشددا على أن “فرنسا توجد بالمغرب من أجل تكوين شراكة مربحة للطرفين، ولا تريد تسويق منتجاتها فقط”، وأن “الرهانات العالمية أصبحت تفرض على المغرب وفرنسا تطوير الشراكة التجارية “ فالديناميكية الاقتصادية البينية قائمة رغم كل الظروف الإقليمية والعالمية.
وفي هذا الصدد دعا مسؤولون فرنسيون إلى البحث عن نموذج جديد للشراكة التجارية بغية تجاوز العراقيل المترتبة عن التحديات المتسارعة، مشيرين إلى أن المغرب يحتل المرتبة الأولى على الصعيد الإفريقي من حيث المشاريع الاستثمارية الموجودة بفرنسا (12 مشروعا سنة 2022)، الأمر الذي أسهم في خلق أكثر من 682 فرصة عمل بالقارة الأوروبية.
وأشار السفير لوكورتيي إلى أن فرنسا تحتل المرتبة الأولى كأكبر مستثمر في المغرب بنسبة 30 بالمئة من إجمالي التدفقات الاستثمارية، وأن السياح الفرنسيين يتصدرون قائمة الزوار إلى المغرب، ما يسهم في زيادة إيرادات القطاع السياحي. إضافة إلى أن فرنسا هي المنشأ الرئيس لتحويلات الجالية المغربية المقيمة في الخارج بالعملة الصعبة، وتعتبر السوق الرئيسة لصادرات السيارات المغربية.
ويُعدُّ المغرب الجهة المستفيدة الأولى من تمويلات الوكالة الفرنسية للتنمية في العالم. وأكّد اللقاء الذي عُقد في 19 كانون الأول/ديسمبر 2019 أن الوكالة الفرنسية للتنمية ستُقرض المغرب سنويًا 400 مليون يورو لفترة 2017-2021 وتُخصص هذه المساهمات لتنمية الرأسمال البشري وتقليص التفاوت بين المناطق ودعم الانتقال في مجالَي الطاقة والبيئة. وبلغت التمويلات التي قدّمتها الوكالة الفرنسية للتنمية في عام 2019 مبلغ 438 مليون يورو.
لم يقتصر التعاون بين فرنسا والمغرب على الاقتصاد فحسب، بل كان له أشكال أخرى إذ أُبرمت اتفاقية الشراكة للتعاون الثقافي والتنمية في 25 تموز/يوليو 2003 بين رئيسي الوزراء ودخلت حيّز النفاذ في آذار/مارس 2010.
وفي مجال التعليم، تستقبل المدارس الفرنسية الأربع والأربعون المؤهّلة في المغرب 42800 تلميذ، ويمثّل المغربيون 69 في المئة منهم. ويضم المعهد الفرنسي في المغرب اثني عشر فرعًا في عدة مدن، ومركزًا للأليانس فرانسيز في أسفي، ومكتبًا لكامبوس فرانس ملحقًا بالمعهد الفرنسي في الرباط، الأمر الذي يكفل حضورًا فرنسيًا فاعلًا وملحوظًا في المغرب. ويمثل الطلاب المغربيون البالغ عددهم 42 ألف طالب الشريحة الأكبر من بين الطلاب الأجانب في فرنسا، كما جرت في 2013 اتفاقات شراكة جديدة بين مؤسسات التعليم العالي الفرنسية والمغربية. إضافة إلى أن فرنسا تُعدُّ شريك المغرب الأول في مجال العلوم. وتدعم شراكة أوبير كوريان "توبقال" من 60 إلى 70 مشروعًا كلّ سنة.
فالحضور الفرنسي في المغرب هو حضور فاعل من خلال ست قنصليات عامة فرنسية، وجالية مكونة من 53900 مواطن فرنسي مسجّلين في سجّل الفرنسيين المقيمين في الخارج (المرتبة الثامنة عالميًا)، ويحمل 51 في المئة منهم الجنسيتين الفرنسية والمغربية.
تدرك الرباط أهميتها المحورية في شمال إفريقيا، إذ نزداد الحاجة الأمريكية والأوروبية لدور المغرب في محيطه الإقليمي اقتصاديا وتجاريا وأمنيا وعسكريا، فقد تغير المزاج الإفريقي العام تجاه النفوذ الفرنسي بالقارة وتعاظم الشعور بضرورة إنهاء الهيمنة الفرنسية، إضافة إلى تنامي النفوذ الروسي في إفريقيا، ودور الجزائر المحوري في هذا النفوذ، فضلا عن هشاشة النظام التونسي، فلا خيار لدى الولايات المتحدة ألأمريكية وأوروبا سوى تقوية العلاقة مع المغرب، واستثمار نفوذه في دول غرب إفريقيا ودول الساحل جنوب الصحراء لإبقاء هذه الدول في محور الناتو، ومنعها من الانزياح الكلي لمحور موسكو.
فهل ستستند الرباط إلى محورية الدور والموقع لتحصيل امتيازات ومكاسب من الجانب الفرنسي؟، وهل تملك فرنسا ما تستطيع تقديمه لتكريس محورية الدور المغربي..؟