الوقت - كما كان متوقعاً، انتهت هجمات الکيان الصهيوني على غزة في أقصر وقت ممكن، وواجهت السلطات الصهيونية قدرات المقاومة الفلسطينية ووافقت على وقف إطلاق النار بعد ثلاثة أيام.
الصهاينة الذين يعلنون دائمًا أنهم المنتصرون الحقيقيون في نهاية حروبهم مع غزة، أطلقوا هذه المزاعم هذه المرة أيضًا، وقالوا إنهم نجحوا في اغتيال قادة الجهاد الإسلامي، وادعوا أنهم حققوا جميع أهدافهم ولا جدوى من استمرار الحرب بالنسبة لهم، وذلك لتبرير الموافقة على وقف إطلاق النار.
فقدان الأمن للمواطنين الصهاينة
خلافًا لتصريحات السلطات الإسرائيلية، تشير الدلائل إلى أن تداعيات هذه الحرب التي استمرت ثلاثة أيام كانت كارثيةً على الصهاينة، كما اعترفت وسائل الإعلام والسلطات الصهيونية بهذا الأمر أيضًا.
يمكن رؤية الفشل الأول للکيان الإسرائيلي في الحرب مع غزة، في انعدام الأمن لحياة المواطنين في الأراضي المحتلة. فمن خلال إطلاق أكثر من 1100 صاروخ باتجاه الأراضي المحتلة من قبل حركة الجهاد الإسلامي، اضطر آلاف الصهاينة إلى قضاء ثلاثة أيام في الملاجئ، ما يدل على حرمان سكان الأراضي المحتلة من الأمن والراحة.
كما أظهرت هروب الجنود الصهاينة وبعض المسؤولين في هذا الکيان عندما قصفت مواقعهم بصواريخ المقاومة، مدى تعطل الحياة اليومية للصهاينة، وأن استمرار هذه المعارك يمكن أن تكون له عواقب سلبية.
وفي هذا الصدد، كتبت صحيفة "إسرائيل ديفينيس" في مقال بعنوان "انتهت عملية الفجر": "المستفيدون من اتفاق وقف إطلاق النار هم سكان أوتاف وكيبوتس وماشافيم وسكان سديروت وعسقلان وأشدود، ومئات الآلاف من الناس في جميع أنحاء إسرائيل الذين هرعوا مرةً أخرى إلى الملاجئ مع أطفال مذعورين".
لم يستطع الکيان الإسرائيلي مواصلة الحرب مع الجهاد الإسلامي لأكثر من ثلاثة أيام، في حين أنه أجری أكبر مناوراته في العقود الماضية في الأشهر الأخيرة، وزعم من خلال ضجة إعلامية كبيرة أنه بهذه المناورات لن تكون فصائل المقاومة قادرةً على الاصطفاف ضد "إسرائيل".
تكاليف مالية غير مسبوقة
من الناحية المالية أيضًا، فرضت الحرب مع المقاومة الكثير من التكاليف على كاهل الصهاينة. وكتبت ناشرة إسرائيلية على موقع YNET(کاد لیور) أن التقديرات تشير إلى أن يومًا من الصراع مع فصائل المقاومة في الحرب الأخيرة كلَّف تل أبيب ما بين 150 و 160 مليون شيكل، بينما كان هذا المبلغ 120 مليون شيكل يوميًا في حرب سيف القدس العام الماضي.
وحسب تقارير إعلامية إسرائيلية، فإضافة إلى تكلفة نصف مليار شيكل بسبب الصراع المباشر مع المقاومة، تم إنفاق عشرات الملايين من الشواقل على تجهيز الشرطة وحرس الحدود.
وسبب ارتفاع التكاليف في الحرب الأخيرة هو تعبئة قوات الاحتياط، واستخدام المزيد من الذخيرة، والتحليق المكثف للطائرات العسكرية، واستخدام معدات عسكرية جديدة مثل الطائرات دون طيار والصواريخ الموجهة.
وذکرت "إسرائيل ديفينيس" بهذا الصدد: "مع مرور الوقت، أصبح العدوان على غزة أكثر تكلفةً على الصهاينة، سواء بسبب عمليات الجيش الإسرائيلي أو بسبب الخسائر في الأرواح والمال على الصعيد الداخلي."
وحسب هذا التقرير، تواجه وزارة الخزانة والجيش الإسرائيلي صعوبات في تقديم تقديرات التكلفة للحكومة، وفي خضم المعارك يريد الجيش الإسرائيلي زيادة الميزانية من خزانة الحكومة.
وبالنظر إلى الحروب المتكررة في غزة في الوقت الذي يواجه فيه الکيان الإسرائيلي نقصًا في الأموال، أثارت هذه الناشرة تساؤلاً حول ما إذا كانت "إسرائيل" مستعدةً ماليًا لجولات الحرب المتتالية أم لا؟
وسبق أن قال المسؤولون في تل أبيب إن تكلفة صواريخ القبة الحديدية المستخدمة لاعتراض الصواريخ الفلسطينية تزيد ألف مرة عن ذلك، ورغم هذا فإن استمرار الحرب قد يكون له تكاليف باهظة على تل أبيب.
کذلك، اعتبرت صحيفة "هآرتس" العملية العسكرية الأخيرة علامةً على فشل سياسة هذا الکيان في غزة، ودعت إلى إنهاء هذه العملية "الغبية".
وحسب هذه الوسائل، بدلاً من تأجيج الحروب المتكررة، على تل أبيب أن تضع مبدأ "الاقتصاد مقابل الأمن" على جدول الأعمال.
وقالت وسائل الإعلام إن المواطنين الإسرائيليين سئموا الحروب المتكررة، وأكدت أنه من أجل منع هذه العمليات الحمقاء الإسرائيلية، وبالإشارة إلى سياسة تل أبيب تجاه غزة، في المرحلة الأولى، يجب بذل الجهود لإعادة بناء غزة وتوسيع تصاريح دخول مواد البناء والبضائع، بالإضافة إلى تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي في قطاع غزة.
هذا في حين أن الکيان الإسرائيلي في العقد الماضي ركز كل اهتمامه على محاربة فصائل المقاومة في المنطقة بدلًا من توفير الرفاهية لمواطنيه، وعلى الرغم من إنفاق مليارات الدولارات، إلا أنه لم ينجح.
الصدمة النفسية للصهاينة
إضافة إلى التكاليف المالية والعسكرية الباهظة، كان العبء النفسي للحروب العبثية مع غزة ثقيلاً على المواطنين الإسرائيليين.
وذكرت "إسرائيل هيوم" أن مراكز الصحة العقلية في "إسرائيل" تلقت 2370 طلبًا منذ العملية في غزة، منها 480 طلبًا في الليلة الأولى من العملية، بزيادة قدرها 40 بالمئة مقارنةً بالأيام العادية.
وصرحت شيري دانياليس، المديرة المتخصصة في مركز العلاج النفسي الأولي في الکيان الإسرائيلي، أن شعب "إسرائيل" بحاجة إلى دعم نفسي، وليس لملاجئ تنقذهم من الصواريخ.
إن المشاكل الحساسة تتفاقم في أعقاب زيادة التوتر الأمني وتفاقم القلق، هذا في حين أنه في السنوات الأخيرة، وردت تقارير عديدة عن زيادة الأمراض العقلية والانتحار بين الجنود الإسرائيليين، الذين عانى معظمهم من هذه الحالة بسبب الحرب مع الفلسطينيين.
الاعتراف بالضعف العسكري أمام المقاومة
مراجعة حروب الکيان الإسرائيلي مع غزة منذ عام 2008، تُظهر أن حرب الأيام الثلاثة الأخيرة كانت الأقصر، وتكشف حقيقة أن ردع المقاومة الفلسطينية وصل لدرجة أن الجيش الصهيوني لا يستطيع الصمود أمام صواريخه لأكثر من ثلاثة أيام، ويضطر إلى الموافقة على وقف إطلاق النار لتجنب خسائر فادحة.
وكانت هذه الجولة من المواجهات مذلةً للصهاينة رغم أن حركة الجهاد الإسلامي هي التي قاتلت الجيش الصهيوني المدجج بأنواع الأسلحة فقط، وابتعدت حركة حماس عن هذه المعرکة.
أهم إنجاز في الحرب الأخيرة للمقاومة، هو أن قدرة "إسرائيل" على خوض حرب واسعة النطاق وكذلك على جبهات مختلفة قد تقلصت بشكل كبير، وإذا تحرك الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية وحتى داخل الأراضي المحتلة بشکل متزامن، فإن قدرة الکيان علی المواجهة ستكون ضعيفةً للغاية.
من ناحية أخرى، أظهرت حرب الأيام الثلاثة الأخيرة أن المقاومة حققت إنجازات عديدة في مجال الصواريخ، وأن أوراق قوتها كثيرة أمام الکيان الإسرائيلي، وستندم تل أبيب إذا استمرت في مغامراتها.
الضعف العسكري للجيش الصهيوني واضح للصهاينة أنفسهم أيضًا، وهم يعترفون بذلك. وفي هذا الصدد، قال نير بركات، عضو البرلمان الصهيوني، حول حرب الأيام الثلاثة: "لسنا مستعدين للحرب القادمة التي يمكن أن تحدث في أي لحظة، نحن نتعرض للهجوم من لبنان وغزة وسوريا والضفة الغربية، وكذلك من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948."
وفي إشارة إلى معركة سيف القدس بين المقاتلين الفلسطينيين والجيش الصهيوني عام 2021 في قطاع غزة، واعترافًا بقوة المقاومة الفلسطينية، أضاف بركات: "ما رأيناه فيها كان مجرد مقدمة".
وتأتي هذه التصريحات فيما كانت السلطات ووسائل الإعلام التابعة للکيان الصهيوني، قد ذكرت في وقت سابق أن القوات الجوية والبحرية لهذا الکيان لم تكن مستعدةً لدخول الحرب.
من ناحية أخرى، فإن نظام القبة الحديدية الذي تسعی بعض الدول العربية لشرائه، هذه المرة كما في الماضي، أثبت عجزه أكثر من أي وقت مضى، وفي اليوم الأول نفد مخزونه من الصواريخ وتوقف عن العمل لبعض الوقت.
هذا النظام الذي من المفترض أن يدافع عن أمن العرب في المستقبل ضد صواريخ إيران القوية وطائراتها دون طيار، بقي عاجزاً حتى في مواجهة صواريخ الجيل القديم للفلسطينيين ولم يوفر الأمن للمواطنين الإسرائيليين. وإذا حدثت حرب واسعة النطاق بين المقاومة و"إسرائيل" وكان عدد الصواريخ المطلقة أكبر، فإن القبة الحديدية ستصبح أضعف أيضًا.
كان الجيش الصهيوني يخوض الحرب وحده مع دول عربية عدة ويحقق بعض الانتصارات، لكنه الآن غير قادر على مواجهة الجهاد الإسلامي، الأمر الذي يظهر ضعف الجيش الصهيوني، وهو الجيش الذي تعتبره السلطات الإسرائيلية أقوى جيش في المنطقة.
كما أن الهزيمة في حرب الأيام الثلاثة ستؤثر على مواقف الكيان الصهيوني تجاه حزب الله اللبناني أيضًا، واستناداً إلى التحذيرات المتكررة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، من أن قوات المقاومة جاهزة لأي صراع مع تل أبيب، ستحاول السلطات الإسرائيلية بعد ذلك التصرف بشكل أكثر حذراً.
لأن الصهاينة يعرفون أن قوة حزب الله أقوى بكثير من المقاومة الفلسطينية، وفي حال حدوث صراع فإن الحزب سيلحق خسائر فادحة بالکيان الإسرائيلي، وستكون آثار ذلك ملموسةً في تراجع تل أبيب عن طاولة المفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع لبنان.
الهجرة العكسية
النقطة المهمة الأخری التي جلبتها الحروب المتتالية في غزة للصهاينة، هي زيادة موجة الهجرة العكسية من الأراضي المحتلة، والتي تأخذ اتجاهاً متزايداً كل عام. وأصبحت الحرب الأخيرة في غزة ذريعةً لوسائل الإعلام الصهيونية، للإشارة مرةً أخرى إلى العواقب السلبية لهذه الحروب على الهجرة العكسية.
وحسب ما أوردته صحيفة إسرائيل هيوم، في الأشهر السبعة الماضية من عام 2022، أراد 33٪ من الصهاينة الهجرة، وحوالي 70٪ منهم تقل أعمارهم عن 25 عامًا. وهذا يدل على أن الشباب الذين يعيشون في الأراضي المحتلة ليس لديهم سبب أو دافع للبقاء في "إسرائيل"، لأنهم يرون أمن حياتهم وممتلكاتهم في خطر بسبب أطماع سلطات تل أبيب، ويبحثون عن مكان آمن للعيش فيه.
هذا في حين أنه في العقد الماضي، هاجر مئات الآلاف من الأشخاص من الأراضي المحتلة بسبب انعدام الأمن الناجم عن الحروب المتكررة مع قطاع غزة، وعدد هؤلاء الأشخاص يتزايد كل عام.
هذا بينما تحاول السلطات الصهيونية جلب اليهود من مناطق أخرى إلى الأراضي المحتلة بوعد الأرض الموعودة، ولكن بسبب الهزائم المتتالية أمام الفصائل الفلسطينية، فشلت تل أبيب في تحقيق هذه الخطة.
الضعف السياسي أمام المقاومة
إضافة إلى التكاليف المحلية، فشلت تل أبيب أمام المقاومة في الساحة السياسية أيضًا.
وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة "القدس" الفلسطينية أن حركة الجهاد الإسلامي تقدمت بعدة مطالب من وسطاء في اتفاق وقف إطلاق النار، من بينها التزام الکيان الإسرائيلي بوقف "أعماله العدوانية في الضفة الغربية".
كما طالبوا الکيان بالسماح لأفراد عائلة بسام السعدي، أحد كبار أعضاء الجهاد الإسلامي، بالاطلاع على حالته، وطالبوا أيضًا بالتزام إسرائيلي بوقف تعذيب الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
هذا بينما كانت هذه الشروط قد اقترحتها فصائل فلسطينية من قبل، لكن سلطات تل أبيب عارضتها، لكن الهزيمة الأخيرة في غزة دفعتهم إلى الموافقة على بعض شروط الفلسطينيين. وبعبارة أخرى، الجهاد الإسلامي الآن تتحدث مع الصهاينة من موقع قوة، وهو نهج، حسب وسائل الإعلام الصهيونية، يعتبر هزيمةً سياسيةً لهذا الکيان.
لقد أظهرت التجارب السابقة أن السلطات الصهيونية في مواجهة أزمات داخلية، تبدأ في العدوان على الفلسطينيين من أجل صرف انتباه الرأي العام.
وفي الوضع الحالي ونتيجة الجمود السياسي والاستعدادات لإجراء الانتخابات في تشرين الثاني، احتاج الصهاينة إلى إنجاز ولو استعراضي، وکانت حرب الأيام الثلاثة في هذا الاتجاه، لأن يائير لبيد، رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية الإسرائيلية، لا يريد أن يفقد منصبه في الانتخابات المقبلة تحت أي ظرف من الظروف.
ومع ذلك، فإن محاولة سلطات تل أبيب بإظهار نفسها منتصرةً ضد الفلسطينيين کانت فاشلةً، وإنجازات هذه الحرب كانت هزيلةً للغاية، لدرجة أنها لم تفشل فقط في جذب الرأي العام والإعلام، بل أثارت استياء الرأي العام في الأراضي المحتلة أيضًا.
بالنظر إلی الإنجازات العسكرية التي حققتها فصائل المقاومة في فلسطين في السنوات الأخيرة، فإن هذه الأعمال لن تساعد الصهاينة على الخروج من هذا الوضع فحسب، بل إن المواجهة مع المقاومة ستؤدي إلى مزيد من الانهيار لهذا الکيان، وتقصير أمد الحروب وإضعاف الجيش الصهيوني دليل موضوعي على هذه القضية.