الوقت - قال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، إن باريس تحترم السيادة الجزائرية احتراما راسخا، وأكد لودريان، أمام نواب الجمعية الوطنية، الثلاثاء، أن الجزائريين يعود لهم وحدهم أن يقرروا مصيرهم وتحديد أطر خياراتهم ونقاشاتهم السياسية.
ولدى سؤاله عن استدعاء الجزائر سفيرها في باريس في الثاني من أكتوبر، أبدى لودريان أسفه للخطوة، وقال: “هذا الأمر لا يتناسب مع الأهمية التي نوليها للعلاقات بين البلدين”.
وتابع: “نحن مقتنعون بأن العمل معا يصب في المصلحة المشتركة، أعتقد أن هذه الرؤية يشاطرنا إياها العديد من المسؤولين الجزائريين على كل المستويات”.
وقبلها بأيام، شدد ماكرون في مقابلة مع إذاعة "فرانس إنتر"، على ضرورة أن يستمر العمل مع الجزائر، آملًا أن تهدأ التوترات الدبلوماسية الحاليّة قريبًا، كما عبر ماكرون عن ثقته بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مؤكدًا أن العلاقات معه "ودية فعلًا".
فيما قال الرئيس تبون، يوم الأحد، إن “عودة السفير الجزائري إلى باريس مشروطة باحترام كامل للدولة الجزائرية”.
هذه التصريحات المتتالية لتهدئة الأوضاع، جاءت بعد تصريحات وقرارات فرنسية أثرت سلبًا على العلاقات الفرنسية الجزائرية، ففي 28 من سبتمبر/أيلول 2021، قررت فرنسا تشديد شروط منح تأشيرات الدخول إلى مواطني المغرب والجزائر وتونس، بعدها بيوم، استدعت الخارجية الجزائرية سفير فرنسا فرانسوا غويات.
كما ادعى ماكرون عند استقباله أحفاد "حركي" (عملاء جزائريون عملوا مع فرنسا) في 30 من سبتمبر/أيلول 2021، عدم وجود أمة جزائرية قبل استعمار بلاده للجزائر، بعدها بيومين استدعت الرئاسة الجزائرية سفيرها لدى باريس محمد عنتر داوود للتشاور.
ماكرون لم يكن يتوقع الرد الجزائري القوي، فبالإضافة إلى استدعاء السفراء، حظرت السلطات الجزائرية على الطائرات الحربية الفرنسية التحليق في أجوائها حسبما أعلن ناطق باسم هيئة الأركان العامة الفرنسية، وتحتاج المقاتلات الفرنسية إلى عبور الأجواء الجزائرية لبلوغ منطقة الساحل والصحراء.
كما أقدمت الجزائر على اتخاذ خطوات لتقوية العلاقات مع الحكومة المالية، في وقت تعرف فيه العلاقات المالية الفرنسية توترًا كبيرًا، إذ زار وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، باماكو والتقى المسؤولين الماليين في خطوة اعتبرت دعمًا للحكومة المالية في وجه الضغوطات الفرنسية.
الهدف من وراء تحركات ماكرون تجاه الجزائر إن كانت تصعيدية أو محاولات تهدئة تتمثل في الحفاظ على المصالح الاقتصادية الفرنسية في هذا البلد العربي المليء بالثروات الطبيعية، فضلًا عن الحفاظ على التعاون الأمني بينهما.
يرى ماكرون أن الجزائر عقب الحراك الشعبي الذي أجبر الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة من منصبه، بدأت في خسارة الامتيازات التي كانت تتمتع بها في الجزائر، لذلك على الدبلوماسية الفرنسية أن تزيد ثقلها لتعديل الكفة مجددًا.
وتخشى باريس أن تخسر السوق الجزائرية، إذ تبلغ الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر 2.5 مليار دولار حتى نهاية 2017، حسب بيانات الوكالة الجزائرية لتطوير الاستثمار، وتتمثل هذه الاستثمارات بـ500 مشروع تشمل قطاع الطاقة والصناعات، إضافة للخدمات العامة، وينخرط فيها 400 شركة، وفق المصدر ذاته.
تتأكد هذه الخشية إذا علمنا أن فرنسا مؤخرًا بدأت بالفعل في خسارة العديد من الامتيازات في هذا البلد العربي، إذ أنهت سلطات الجزائر عقود العديد من المؤسسات الفرنسية في بلادها، على غرار شركة "راتيبي باريس" المكلفة بتسيير مترو الجزائر، وأيضًا مجمع "سيوز" الفرنسي، الذي كان يسير المياه في الجزائر العاصمة.
فضلًا عن إفشال الجزائر محاولة شركة توتال الفرنسية للطاقة، الاستحواذ على أصول شركة "أناداركو" الأمريكية بالجزائر، التي انتقلت ملكيتها لمجمع "أوكسيدنتال بيتروليوم" المعروف بـ"أوكسي" (أمريكي)، بفضل ممارسة حق الشفعة.
خسارة المزيد من الامتيازات في الجزائر، من شأنها أن تؤثر سلبًا على الاقتصاد الفرنسي المتعثر، إذ تعاني باريس أزمة اقتصادية حادة نتيجة أسباب عدة على رأسها تداعيات جائحة كورونا وحملات مقاطعة لسلعها وتراجع الاستثمار، فقد سجل الاقتصاد الفرنسي سنة 2020 أكبر ركود منذ الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، مع تراجع إجمالي الناتج الداخلي بنسبة 8.3%، بحسب تقديرات رسمية.
فضلًا عن الخسائر الاقتصادية، يخشى ماكرون أن يُفقده توتر العلاقات مع الجزائر أحد أبرز الحلفاء في المجال الأمني في القارة الإفريقية، فخسارة حليف كالجزائر يعني خسارة معلومات استخباراتية مهمة في إفريقيا، ما سيؤدي إلى حدوث خلل في الاستراتيجية الأمنية الفرنسية داخليًا وخارجيًا.
لا يخشى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خسارة الامتيازات الاقتصادية والتعاون الأمني فقط مع الجزائر، فذلك سيكون مدخلًا لخسارة نفوذ باريس في تلك الدولة المطلة على السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
ليس هذا فقط بل خسارة نفوذ باريس في المنطقة ككل، فالجزائر بلد محوري هناك، وله تأثير كبير على أغلب دول المنطقة، لذلك فإن مسؤولي الإليزيه يبحثون عن السبل الكفيلة لإعادة القطار لمساره لتجنب العواقب الوخيمة لخروجه عن السكة.
يبحث المسؤولون في باريس عن طريقة لإعادة المياه إلى مجاريها في علاقة بلادهم بالجزائر، بعد التوترات الكبيرة التي عرفتها مؤخرا نتيجة تصريحات ماكرون "غير المسؤولة". لكن الجزائريين يعتبرون أن هذه الخطوة محاولة من باريس للقفز على مطلب رئيس للجزائريين، وهو تقديم اعتذار رسمي عن جرائم الاستعمار، بدل الخوض في مسائل هامشية.