الوقت- منذ عقود، تنتهج حكومة الاحتلال الإسرائيلي سياسات قمعية ضد الفلسطينيين، تتراوح بين التهجير القسري، والتوسع الاستيطاني، والتضييق الاقتصادي، والعمليات العسكرية المتكررة، ومع وقف إطلاق النار في غزة، وجدت "إسرائيل" فرصة لتحويل تركيزها نحو الضفة الغربية، مستخدمة أدوات الحرب ذاتها التي حولت غزة إلى منطقة منكوبة، لم يكن التصعيد الأخير مجرد حملة أمنية، بل بدا وكأنه محاولة ممنهجة لإعادة تشكيل الواقع الفلسطيني عبر استهداف البنية التحتية، وتقييد الحركة، ومضاعفة معاناة السكان، هذه الاستراتيجية، التي تحمل ملامح العقاب الجماعي، تطرح تساؤلات حول نوايا "إسرائيل" الحقيقية في الضفة، ومدى تأثيرها على مستقبل الفلسطينيين هناك.
استراتيجية العقاب الجماعي: تحويل الضفة الغربية إلى غزة جديدة
يشير تحقيق "بوليتيكو" إلى أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي استغلت وقف إطلاق النار في غزة لتحويل تركيز عملياتها العسكرية نحو الضفة الغربية، في حملة قمعية واسعة تستهدف الفلسطينيين بشكل غير مسبوق. العمليات الأخيرة، التي بدأت من مخيم جنين وتوسعت إلى مدن أخرى، ليست مجرد ردود فعل أمنية بل تحمل طابعا عقابيا وانتقاميا واضحا، يعكس استراتيجية ممنهجة لإضعاف أي مقاومة فلسطينية وإحكام السيطرة على المناطق الفلسطينية.
التحركات الإسرائيلية في الضفة الغربية تعيد إنتاج التكتيكات المستخدمة في غزة: الحصار المشدد، تدمير البنية التحتية، استهداف المستشفيات والمسعفين، وفرض قيود خانقة على حركة الفلسطينيين، هذه الاستراتيجية تهدف إلى إضعاف المجتمع الفلسطيني من الداخل، وتحويل مدن وبلدات الضفة إلى مناطق منكوبة لا تصلح للحياة الطبيعية، ما يدفع الفلسطينيين إما إلى النزوح القسري أو إلى الاستسلام التام للواقع المفروض عليهم.
التواطؤ بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي يضيف بعدًا آخر للأزمة، إذ إن عمليات القمع التي نفذتها السلطة في جنين بالتزامن مع العمليات الإسرائيلية تعكس دورها كأداة لضبط الفلسطينيين نيابة عن الاحتلال، بدلاً من حماية حقوقهم، كما أن منع "إسرائيل" لوكالة "أونروا" من تقديم الخدمات في الضفة، بالتوازي مع توسع المستوطنات وعنف المستوطنين، يكشف نية واضحة لتغيير الوضع الديموغرافي وطمس معالم الوجود الفلسطيني.
في ظل هذه التطورات، يبدو أن حكومة الاحتلال لا تسعى فقط إلى معاقبة الفلسطينيين على أحداث الـ 7 من أكتوبر، بل إلى إعادة رسم المشهد السياسي والجغرافي في الضفة، عبر تفريغها من سكانها أو تحويلها إلى جزر معزولة تحت سيطرة عسكرية مشددة، ما يعيد طرح التساؤل حول مستقبل القضية الفلسطينية في ظل هذا التصعيد الممنهج.
التواطؤ السياسي وتكريس الحصار: السلطة الفلسطينية بين العجز والتبعية
يرى خبراء سياسيون أن الحرب الإسرائيلية على غزة ليست سوى جزء من مخطط أوسع يستهدف الضفة الغربية أيضًا، حيث تسعى "إسرائيل" إلى استكمال نكبة 1948 عبر تصعيد ممنهج يهدف إلى تفريغ الأراضي المحتلة من سكانها أو إخضاعهم لظروف تجعل الحياة مستحيلة، غير أن ما يزيد من تعقيد المشهد، وفقًا للأشقر، هو الدور الذي تلعبه السلطة الفلسطينية، التي بدلاً من أن تكون حصنًا لحماية الفلسطينيين، تحولت إلى أداة تستخدمها "إسرائيل" والولايات المتحدة لتأمين السيطرة على السكان وإجهاض أي مقاومة ناشئة.
هذا التواطؤ يتجلى في حملة القمع التي شنتها السلطة ضد الفصائل الشبابية المسلحة، ولا سيما في طوباس ومخيم جنين، حيث بدا أن القيادة الفلسطينية تسعى لإثبات جدارتها كـ"حارس سجن" يفرض النظام بالقوة نيابة عن الاحتلال، إلا أن هذا النهج يكشف عن قصور استراتيجي عميق، إذ إن السلطة فقدت مصداقيتها لدى شعبها، وأصبحت رهينة لإرادة "إسرائيل" والولايات المتحدة، دون أن تحصل على أي ضمانات سياسية حقيقية بالمقابل.
إن استمرار السلطة في هذا المسار لا يعزز إلا عزلة الفلسطينيين، ويفاقم الانقسام الداخلي، ما قد يجعلها في نهاية المطاف مجرد كيان إداري بلا شرعية شعبية، وبالتالي، فإن الرهان الإسرائيلي على السلطة كأداة للضبط قد يكون سلاحًا ذا حدين، حيث قد يؤدي إلى انهيارها بالكامل، وخلق فراغ سياسي قد تملؤه قوى جديدة أكثر تجذرًا في الشارع الفلسطيني.
الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية
منذ بداية الحرب على غزة، تصاعدت الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية بوتيرة غير مسبوقة، حيث شنّ الجيش الإسرائيلي حملات عسكرية مكثفة على مدن ومخيمات فلسطينية، مثل جنين، طولكرم، نابلس، والخليل، هذه العمليات شملت اجتياحات بالدبابات والمدرعات، والقصف الجوي عبر الطائرات الحربية والمسيّرات، بالإضافة إلى استخدام جرافات "D9" العملاقة لتدمير البنية التحتية وهدم المنازل، وقد أسفرت هذه الهجمات عن مقتل مئات الفلسطينيين وجرح الآلاف، في واحدة من أعنف موجات القمع التي تشهدها الضفة منذ الانتفاضة الثانية.
وفي مشهد يعكس استراتيجية العقاب الجماعي، فرضت "إسرائيل" حصاراً اقتصادياً خانقاً على الضفة، من خلال إغلاق المعابر، وإلغاء تصاريح العمل، وتقييد حرية التنقل، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، كما استُخدمت أساليب عسكرية لم تكن تُطبّق في الضفة سابقاً، مثل عمليات الاغتيال بالطائرات المسيرة، وهي سياسة كانت تُنفّذ في غزة ولبنان فقط، كل هذه الانتهاكات تأتي ضمن سياسة تهدف إلى إخضاع السكان الفلسطينيين، ومنع أي تحركات مقاومة مستقبلية، في وقت تتجاهل فيه الحكومة الإسرائيلية التحذيرات من أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تفجير الأوضاع بشكل أكبر، وتعزيز المقاومة المسلحة بدل القضاء عليها.
ومن الجدير بالذكر فقد أُجبر الرجال والنساء والأطفال والشباب وكبار السن، بعضهم على الكراسي المتحركة، والبعض الآخر يستخدم العكازات، على الخروج من مخيم جنين للاجئين سيرا على الأقدام لأن القوات الإسرائيلية، التي حاصرت المخيم في محاولة لاستئصال المسلحين، حددت طريقا واحدا فقط للإخلاء، وهو الطريق الذي دمرته جرافاتها العسكرية في السابق، ويقول المسؤولون الإسرائيليون إن العملية العسكرية في المخيم المحاذي لمدينة جنين وأطلقوا عليها “عملية الجدار الحديدي” لـ “هزيمة الإرهاب في المنطقة”.
و تعتبر العملية تصعيدا في الحجم والكثافة وتختلف عن الهجمات السابقة، وقامت المقاتلات الحربية الإسرائيلية بغارات قتلت 25 شخصا فيما قام الجنود بتفجير بنايات في الأحياء السكنية، وجرفت الشوارع داخل المخيم، بما فيها الطريق المؤدي إلى مستشفى جنين الحكومي، المرفق الصحي العام الوحيد في المنطقة، ما أدى إلى إتلاف شبكات المياه والصرف الصحي والاتصالات.
وفي غضون أربعة أيام فقط، أصبح المخيم خاليا تقريبا من سكانه البالغ عددهم 20,000 ألف نسمة، وقتلت "إسرائيل" منذ بداية العام الحالي 70 شخصا بمن فيهم أطفال في الضفة الغربية، حسب أرقام وزارة الصحة الفلسطينية، وهذه الأرقام تشمل 38 فلسطينيا قتلوا في منطقة جنين وحدها وباستخدام أساليب تعيد النظر إلى تلك التي استخدمت في غزة.
تحذيرات إسرائيلية
تتزايد التحذيرات داخل الأوساط الإسرائيلية من أن النهج العسكري العنيف في الضفة الغربية قد يؤدي إلى نتائج عكسية، ويحوّل المنطقة إلى نسخة ثانية من غزة، حيث يصبح الرد الفلسطيني أكثر تنظيماً وتسليحاً. ويرى خبراء عسكريون، ممن خدموا لسنوات طويلة في المناطق الفلسطينية، أن الاستمرار في سياسة الأرض المحروقة والاعتقالات الجماعية والاقتحامات العسكرية لن يبقى في اتجاه واحد، بل قد يتطور إلى مواجهة أكثر شمولاً، قد تشمل استخدام المقاومة الفلسطينية للصواريخ قصيرة المدى لقصف العمق الإسرائيلي، تماماً كما حدث في غزة.
صحيفة "هآرتس" العبرية حذّرت في افتتاحيتها من أن "إسرائيل" قد تستيقظ قريباً على "غزة أخرى" على حدودها الشرقية، وهو سيناريو سيكون أكثر تعقيداً وخطورة على الأمن الإسرائيلي.