الوقت- لاحظ المراقبون السياسيون في الأشهر الأخيرة حدوث تغيير في نهج السياسة الخارجية لتركيا وإعادة رجب طيب أردوغان النظر في العلاقات الخارجية مع باقي اللاعبين على المستويين الإقليمي وما وراء الإقليمي. حيث واجهت الحكومة التركية في السنوات الأخيرة توترات كبيرة على مستويات مختلفة مع أمريكا وأوروبا والدول العربية، خاصة السعودية والإمارات ومصر وبعض الدول المجاورة لها مثل اليونان وقبرص و غيرها من خلال تبني استراتيجية التدخل الفعال في الملفات المتأزمة المهمة في غرب آسيا وشمال إفريقيا.
ومع ذلك، يبدو أن وصول جو بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة وتصاعد التوترات بين تركيا والغرب قد أقنع أردوغان بإعادة النظر في نهج سياسته الخارجية. وفي غضون ذلك، كانت سوريا إحدى الدول التي كانت مؤخرا في مركز سياسة التهدئة وخفض التصعيد للجهاز الدبلوماسي التركي. فمنذ عام 2011، طالبت أنقرة بتنحي الرئيس بشار الأسد من السلطة، وحتى في السنوات التي تلت عام 2017، احتلت تركيا في ثلاث عمليات، درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، أجزاء من الشمال السوري. وفي العامين الماضيين، تحولت تركيا الى مصدر رئيسي لدعم الإرهابيين في محافظة إدلب. ومع ذلك، في الوضع الجديد، هناك أدلة على أن أنقرة اتبعت سياسة خفض التصعيد تجاه سوريا الحكومة الشرعية في دمشق. وهذا الأمر طرح الأسئلة حول الأسباب الرئيسية لمثل هذا التغيير في النهج باعتباره قضية في غاية الأهمية.
تغيير في نظرة أنقرة تجاه دمشق
يمكن اعتبار أهم مظاهر تغيير مواقف تركيا تجاه حكومة دمشق يكمن في الاجتماع بين هاكان فيدان، رئيس جهاز المخابرات والأمن القومي التركي، ونظيره السوري علي مملوك، في العاصمة العراقية. حيث كشفت وسائل الإعلام التركية مؤخرا عن خطط لعقد مثل هذا الاجتماع بين كبار القيادات الأمنية في البلدين، سوريا وتركيا. اللافت أن لقاء فيدان ومملوك في بغداد يعتبر ثاني لقاء بين المسؤولين الأتراك والسوريين فالاجتماع الأول عقد في يناير 2020 في موسكو.
وفي هذا السياق قال الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العسكرية التركي إسماعيل حقي بيكين، إن هذه الوتيرة، التي تم تنفيذها لعدة سنوات عبر دول مثل روسيا وإيران، لم يكن لها أهمية كبيرة. فيما أكد أن التطورات التي بدأت مع هاكان فيدان ستحيي القنوات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين وتسمح ببدء عهد جديد. وصرح المسؤول الاستخباري التركي السابق بأن فيدان ومملوك سيتناولان في بغداد قضيتي العمال الكردستاني واللاجئين، وكذلك التشاور بشأن الوضع في أجزاء من المناطق السورية المرتبطة بتركيا ، مثل إدلب ودرعا. وسيناقشان خارطة طريق جديدة.
أسباب تخلي أنقرة عن نهج العداء منذ 10 سنوات لدمشق
بالنظر إلى الإشارات الواضحة من الحكومة التركية للدخول في عملية خفض التصعيد مع حكومة بشار الأسد، فإن السؤال المهم الآن هو ما إذا كانت أنقرة قد دخلت في هكذا عملية من السياسة؟ في الاجابة على هذا السؤال يمكن أن نشير إلى أربعة محاور مهمة ، وهي:
معادلات سوريا الميدانية والسياسية: بلا شك أهم عامل في اعادة تركيا النظر في السياسة تجاه حكومة بشار الأسد وتوجه هذا البلد نحو حوار التهدئة مرتبط بالانتصارات الميدانية ونجاح دمشق في هزيمة الجماعات الإرهابية واستعادة الاستقرار النسبي الى هذا البلد. فعلى عكس التصورات الأولية لأردوغان والدول الغربية، نجحت الحكومة والجيش السوري، إلى جانب إيران وروسيا، في هزيمة الإرهابيين واستعادة سيادة الدولة على قرابة 70 بالمئة من أراضي البلاد في السنوات التي تلت 2011، رغم المؤامرات المدعومة مالياً ولوجستيا من قبل تلك الدول. بالإضافة إلى ذلك، أدى إجراء الانتخابات الرئاسية السورية في 26 أيار 2021 ، والتي صاحبها فوز حاسم بنسبة 95٪ لبشار الأسد ، إلى زيادة أسس شرعية الحكومة. وفي مثل هذا الوضع ، يبدو أن الحكومة التركية أدركت الحقائق الميدانية على الأرض، وتوصلت إلى قناعة بأنه لن يكون لها اي طريق مستقل عن التعامل والتعاون مع الحكومة السورية.
تصاعد التوترات بين تركيا والغرب في عهد بايدن وضرورة خفض التصعيد مع الشرق: السبب الآخر لدخول أنقرة في السنوات الاخيرة مسار التهدئة مع سوريا يتعلق بنوع العلاقات بين تركيا والغرب. ففي السنوات الأخيرة، تورطت دخلت أردوغان في توترات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية من خلال اتباع سياسة التطلع إلى الشرق على مستويات مختلفة من السياسة. واتجهت العلاقات بين هذه الدولة والغرب إلى درجة أعلن فيها مراقبون سياسيون انتهاء تحالف تركيا الاستراتيجي مع المحيط الأطلسي وبداية حقبة جديدة من التوتر بين الجانبين. ومع تصاعد التوترات بين الغرب وتركيا ، أصبح النظر إلى الشرق أيضًا على جدول أعمال أنقرة ، لكن أردوغان يدرك الآن بوضوح أن مقدمة التعاون مع الشرق هو التقرب من مواقف الجهات الفاعلة مثل روسيا والصين وإيران. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار سوريا أحد محاور التوتر الرئيسية بين تركيا والمحور الشرقي، حيث يبدو تذليل هذه العقبة على أجندة المرحلة الجديدة من سياسات أنقرة.
ضرورات المناخ السياسي داخل تركيا: بالإضافة إلى المستويات الإقليمية وما وراء الإقليمية ، فإن المعادلات السياسية داخل تركيا هي عامل أو سياق آخر في اتجاه تركيا نحو خفض التصعيد مع سوريا. ففي السنوات القليلة الماضية، كانت قضية وجود اللاجئين السوريين في تركيا من أهم القضايا وأكثرها تحديا بين الأحزاب في البلاد. حيث قال زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي كمال قلجدار أوغلي مرارا أنه سيعيد اللاجئين السوريين الى بلادهم ، كما قالت زعيمة حزب الخير ميرال أكشينار إنها مستعد لزيارة دمشق ولقاء مسؤولي الأسد لإيجاد حل لقضية اللاجئين السوريين. في مثل هذا الوضع ، يبدو أن أردوغان وقادة حزب العدالة والتنمية يعتزمون التخفيف من عبء اللاجئين عن كاهلهم من خلال إنشاء قناة اتصال مع الحكومة السورية للحفاظ على قوتهم وموقعهم في السلطة. لكي لا تستخدم هذه القضية في المنافسات الانتخابية كأداة لانتقاد هذا الحزب.
ضرورة عدم تقوية المحور المناهض للإخوان في المنطقة: في السنوات القليلة الماضية، أدت سياسات تركيا الميدانية إلى مستوى من المواجهة مع الدول العربية بقيادة السعودية والإمارات ومصر. بعبارة أخرى، شكلت هذه الدول محورا ضد الاخوان في المنطقة المدعومون من تركيا وحزب العدالة والتنمية. حيث أدى تسابق الدول العربية الى التقرب من حكومة بشار الأسد في السنوات الأخيرة إلى تزايد قلق تركيا بشأن تعزيز المحور المناهض للإخوان بالتعاون مع دمشق. لذلك، يبدو أن السلطات التركية تسعى إلى منع تقارب دمشق من السعودية ومصر والإمارات من خلال الدخول في مفاوضات مع الحكومة السورية الشرعية.