الوقت- تعد السجون الاسرائيلية مسرحا للتعذيب والقهر، الأمر الذي ألقى بظلاله على عقول ونفسيات الأسرى، اذ يتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الأسير الفلسطيني على أنه عدو، ويرى أن قتله وتعذيبه واجب من أجل الحصول على معلومات منه بوسائل غير مشروعة وغير آدمية، فالاحتلال لا يحترم قانون التحقيق الدولي، ويتلذذ بإجرامه ضدّ الأسير ولو تَعرَّض للموت تحت التعذيب.
الأسير المحرر منصور الشحاتيت هو آخر مثال حي عن مدى القهر والتعذيب الذي يذوقه السجناء في زنانين الاحتلال، فلم يكون الشحاتيت قد تجاوز 18 عاما من عمره، حين اعتقله الجيش الإسرائيلي في العام 2003، وحكم عليه بالسجن 17 عاما، ليفرج عنه بعد قضائه محكوميته وقد نالت قيود السجان من صحته وذاكرته.
عانى من ظلم كبير في ظلمات السجون الانفرادية، ليعود بذاكرة خالية من الأصدقاء والأصحاب، حتى أنه نسي أمه. لم يتَعرف على أحد إلا قلة تذكر الأطفال بطريقة طفولية أبناء إخوته.
أصيب الأسير المحرّر، منصور يوسف الشحاتيت، الذي اعتقله الاحتلال بتهمة مقاومته، عندما كان لا يتجاوز الثمانية عشر عاماً من العمر، بفقدان الذاكرة المؤقت أو الجزئي، ومشاكل نفسية وعصبية، بعد قرابة خمس سنوات من اعتقاله، إثر التعذيب الجسدي والنفسي الذي تعرّض له في سجون الاحتلال، وإعطائه من قبل الاحتلال حقناً غير معروفة، بحسب ما تؤكد عائلته.
حالة الشحاتيت المؤلمة والمصائب التي ألمت به، أثارت تفاعلا إعلاميا واسعا وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. وصحيح أنه عاد هزيلاً مريضاً، ولكن بكلمات بسيطة أبكتنا جميعاً، "أنا أحب فلسطين وأحب وطني وصبرت وصمدت من أجل الوطن".
كل الكلمات صمتت أمام المشهد، الدموع تملأ عيون من كان موجوداً وبعض من رفاق الأسر الذين يتذكرون هذا الأسد، والآن كيف عاد من داخل زنازين الموت.
وخلال فترة اعتقاله، تنقل منصور بين مختلف السجون الإسرائيلية، لكن الأصعب والأكثر قساوة كانت زنازين العزل الانفرادي التي أمضى فيها ما يزيد على 13 عاما، منها 3 سنوات كانت متواصلة في بداية اعتقاله، وفق حديث والده الحاج يوسف الشحاتيت.
لكم أن تتخيلوا حال الأسير منصور، وهو في زنازين العزل الانفرادي يقضي سنوات أو أشهر أو أسابيع، تباعاً أو على فترات، في غرفة مظلمة بسوادها، ولا تزيد على مترين مربعين، ويمنع زيارة ذويه أو الأسرى رفاقه والحديث معهم، ولا يرى النور إلا مرة ولدقائق معدودات في اليوم أو يحرم منه.
حين اعتقال الشحاتيت لم يكن يعاني من أي أمراض، وقد تعرض خلال التحقيق إلى جولات تعذيب قاسية وضرب شديد، الأمر الذي أدى إلى إصابته باضطراب وعدم انتظام دقات القلب، وبدل تقديم العلاج له قام الاحتلال بعزله لفترة طويلة ما أدى إلى إصابته بضيق في التنفس، وحالة من فقدان الذاكرة، بحيث إنه في إحدى الزيارات لم يتعرف على والدته.
في يوم الإفراج عنه، بعد 17 عاماً من الاعتقال، تعمّد الاحتلال تعذيب منصور الشحاتيت، وفق عائلته، تركه جائعاً وجعله خائر القوى يوم تحرّره، فلم تُسعفه ذاكرته، ولم يُسعفه جسده للوقوف أو المشي، لذا أمسكت والدته بيده، وأحاط والده وإخوته به، خشية أن يسقط مغشياً عليه، كما سقطت ذاكرته وعافيته العقلية والنفسية في السجن وتحرّر دونهما.
تعذيب جسدي ونفسي
يتفنن المحققون في سجون الاحتلال الإسرائيلي في ابتكار أساليب التعذيب وتفتيت الأعصاب حتى ينهار الأسير أمامهم، وليس جديداً أسلوب نزع المعلومات بهذه الطرق القاسية واللا إنسانية، فقد كشف تقرير أعدته مؤسسة بتسليم الإسرائيلية، أن أكثر من 850 سجيناً فلسطينياً يتعرضون لأشكال متنوعة من التعذيب كل سنة، وأن محقّقي الشاباك يستخدمون في أثناء تحقيقهم واستجوابهم للمعتقلين الفلسطينيين أكثر من 105 وسائل للتعذيب.
ومن بين وسائل التعذيب التي أشار إليها التقرير "أسلوب رش الأسير بالمياه الباردة، وجلسة القرفصاء على كرسي أطفال برأس مغطى ويدين مكبَّلتين، وضرب الرأس بالحائط، والتعرية الكاملة وتكبيل اليدين إلى الخلف مع الاستلقاء على الظهر، والضرب بالهراوة على الصدر والمعدة، وصلب الأسير على رأسه لفترات طويلة، مع استخدام الهراوة للضرب على الساقين والفخذين والبطن، وثني الذراع إلى أعلى، والركل بالركبة على المعدة".
وتؤكّد الإحصائيات أن 90% من الأسرى الذين اعتقلتهم سلطات الاحتلال تعرضوا للتعذيب في أقبية التحقيق ومراكز التوقيف المختلفة.
وتقول مؤسسات تعنى بشؤون الأسرى، إن إسرائيل تعتقل في سجونها نحو 4450 أسيرا، بينهم 37 أسيرة، ونحو 140 قاصرا، و440 معتقلا إداريا (دون تهمة).
وتفيد معطيات تلك المؤسسات، ومنها نادي الأسير الفلسطيني (غير حكومي) أن إسرائيل تمارس الإهمال الطبي، أو ما تسميه المؤسسات "القتل البطيء" بحق الأسرى.
ووفق نادي الأسير، فإن عدد الأسرى المرضى في سجون الاحتلال حتى نهاية 2020 بلغ 700، منهم 300 يعانون أمراضا مزمنة وبحاجة إلى متابعة صحية حثيثة.
وذكر أن من بين الأسرى المرضى 10 على الأقل يعانون السرطان بدرجات متفاوتة.
وتفيد المعلومات باستشهاد 230 معتقلاً فلسطينيا منذ العام 1967 نتيجة التعذيب على يد قوات الاحتلال أثناء التحقيق.
ففي العام 2013 أعلنت السلطة الفلسطينية أن المعتقل الفلسطيني عرفات جرادات في سجن إسرائيلي قضى نتيجة التعذيب وليس بأزمة قلبية.
ما يفعله الاحتلال الاسرائيلي غير انساني وغير أخلاقي، وشكّل حال الأسير المحرّر منصور الشحاتيت، صدمة جديدة للرأي العام، وتعد حالة الشحاتيت مثالا حيا على الظلم والقهر والتعذيب الذي يتعرض له الاسرى، ورغم ان الشحاتيت فقد ذاكرته وفقد جزءاً كبيراً من اتّزانه العقلي والنفسي، جرّاء التعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي والضغوط النفسية التي يحاصر الأسرى بها، إلا انه تمكن من الصمود ومواجهة الاحتلال وهو سجين ليلقن الاحتلال درسا بالمقاومة والصمود.