الوقت- بعد انتهاء الحرب الباردة إثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في بداية تسعينات القرن الماضي، تراجع الدور الروسي إزاء قضايا الشرق الأوسط إلى درجة مكّنت أمريكا من التفرد بالقرارات المصيرية التي ترسم مستقبل هذه المنطقة.
ولكن بعد إندلاع الثورات الشعبية في العديد من دول العالم العربي تغيّر الدور الروسي تجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتحول من حالة الانفعال إلى حالة الفعل والتأثير المباشر لاسيما بعد إندلاع الأزمة السورية وظهور الجماعات الإرهابية في المنطقة.
ويمكن قراءة هذا التغيّر في الموقف الروسي من خلال عدّة محاور نشير اليها بشكل مختصر على النحو التالي:
1 - المحور الأمني: شعرت روسيا بخطورة المشروع الأمريكي المسمى "الشرق الأوسط الكبير أو الجديد" الرامي إلى تقطيع أوصال المنطقة للهيمنة على مقدراتها وتحديد مصيرها بما يخدم أهداف هذا المشروع، فبادرت إلى تشكيل تحالف استراتيجي مع عدد من دول المنطقة في مقدمتها إيران وسوريا لمواجهة هذا التهديد ومنع هيمنة المشروع الغربي الذي تقوده أمريكا في المنطقة.
كما تخشى روسيا من انتشار ظاهرة التطرف والجماعات الإرهابية والتكفيرية قرب حدودها وتحديداً في العديد من دول آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز ومن بينها الشيشان، حيث يسعى هؤلاء إلى تنفيذ عمليات إرهابية داخل الأراضي الروسية في إطار مشروعهم المسمى "دولة الخلافة الاسلامية" التي يدعو لها تنظيم "داعش" والجماعات الإرهابية الأخرى المرتبطة به.
وتخشى روسيا كذلك من انتشار التيارات الوهابية والسلفية في بعض البلدان القريبة منها لاسيما أفغانستان وباكستان والتي تسعى إلى ترويج الأفكار المتطرفة في هذه البلدان بالتنسيق مع الجماعات الإرهابية لاسيما تنظيم "داعش"
2 - المحور الاقتصادي: عمدت روسيا إلى انتهاج سياسة الانفتاح على العديد من دول غرب آسيا وشمال أفريقيا لاسيما السعودية ومصر لتعزيز العلاقات معها في مختلف المجالات لاسيما في الجانب الاقتصادي، الى جانب عقد صفقات كبيرة لبيع الأسلحة لهذه الدول والتفاهم معها بشأن أسعار النفط والغاز بإعتبار أن روسيا تعد من أكبر المنتجين والمصدرين لهاتين المادتين. وبسبب الأزمة الاوكرانية وفرض الدول الغربية حظراً أقتصادياً على روسيا على خلفية هذه الأزمة، بادرت موسكو إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الكثير من دول المنطقة ومن بينها دول مجلس التعاون للتعويض عن الأضرار التي لحقت بها جراء هذا الحظر.
3 - البعد أو المحور العسكري: بعد غزو العراق من قبل أمريكا والدول الغربية الحليفة لها عام 2003 وما سبّبه ذلك من تداعيات خطرة على الأمن والاستقرار في عموم المنطقة، وما تبعها من تطورات ميدانية ظهرت بوضوح خلال الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على لبنان وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية، إلى جانب التغيرات التي حصلت في ليبيا جراء سقوط نظام معمر القذافي وتدخل الدول الغربية في شؤون هذا البلد، بالاضافة إلى العدوان السعودي المتواصل منذ سبعة أشهر على اليمن؛ كل ذلك دفع روسيا إلى إعادة النظر في استراتيجيتها العسكرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدف أعادة التوازن إلى هذه المنطقة التي شهدت تواجداً عسكرياً غير مسبوق للقوات الغربية لاسيما الأمريكية خلال العقدين الأخيرين. ونتيجة المخاطر الكبيرة التي سبّبها ظهور الجماعات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة خصوصاً في سوريا والعراق إضطرت القيادة الروسية إلى إتخاذ تدابير سريعة تمنع انتشار خطر هذه الجماعات إلى أراضيها، وتجسدت هذه التدابير بشكل واضح خلال الأسابيع الاخيرة، حيث قامت القوات الروسية بتوجيه ضربات جوية وصاروخية مكثفة على مقرات ومواقع هذه الجماعات في سوريا ملحقة بها خسائر جسيمة بالأرواح والمعدات.
وتمكنت هذه الضربات من تحقيق سلسلة من الأهداف يمكن الاشارة إلى أهمها على النحو التالي:
1 - تغيير ميزان القوة العسكرية لصالح الجيش السوري الذي تمكنت قواته مؤخراً من تحرير الكثير من المناطق المهمة والاستراتيجية وتطهيرها من العناصر الإرهابية.
2 - منع إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا والتي كانت تركيا تسعى إلى إيجادها بحجة الحفاظ على حدودها الجنوبية المحاذية لسوريا، في وقت تؤكد جميع الشواهد والقرائن أن أنقرة هي من دعم ويدعم الجماعات الإرهابية بهدف أسقاط حكم الرئيس السوري بشار الأسد.
3- منع فرض منطقة حظر جوي في سوريا والتي كانت أمريكا والدول الغربية الحليفة لها تسعى لايجادها في إطار عمليات ما يسمى "التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" الذي تقوده واشنطن والذي ثبت فشله في أداء هذه المهمة بعد أكثر من سنة على تشكيله.
4 - إرغام الدول الغربية وفي مقدمتها أمريكا على تغيير مواقفها من الأزمة السورية والتنازل عن موضوع تنحي الرئيس بشار الأسد عن السلطة كشرط للتسوية مع قوى المعارضة السورية، وهذا ما أكده وزير الخارجية الأمريكي جون كيري والعديد من المسؤوليين الأوروبيين خلال الأسابيع القليلة الماضية.
5 - تشجيع المعارضة السورية غير المسلحة على الدخول بمفاوضات مع الحكومة السورية من أجل التوصل إلى حل سلمي لإنهاء الأزمة في هذا البلد.
من خلال قراءة هذه المعطيات يمكن التوصل إلى نتيجة مفادها ان روسيا لا يسعها أن تتخلى عن لعب دور مؤثر وفعّال في غرب آسيا وشمال أفريقيا في جميع المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية بعد أن تمكنت من إستعادة نفوذها وهيبتها في هذه المنطقة الحساسة والمهمة من العالم خصوصاً وأنها تعد الأقرب جغرافياً وجيوبولوتيكياً إلى دول الشرق الأوسط ويهمها كثيراً عودة الأمن والإستقرار إلى هذه المنطقة كونه يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على أمنها واستقرارها، بالاضافة إلى أنه يوفر لها الأرضية المناسبة لتحقيق مصالحها الاقتصادية على المديين القريب والبعيد والتي تضررت كثيراً نتيجة محاولات الدول الغربية لاسيما أمريكا للاستحواذ على المقدرات الاقتصادية لهذه المنطقة من ناحية، ونتيجة الحظر الغربي المفروض عليها على خلفية الأزمة الاوكرانية من ناحية أخرى.