الوقت- لا تكاد الأمور في سوريا تلامس طريق الحل حتى يأتي الغرب ويقطع هذا الطريق أمام أي مبادرة حقيقية فاعلة من شأنها إنهاء الحرب هناك والوصول إلى حالة مستقرة في بلد مزّقته الحرب وقادت فيه عشرات الدول حرباً بالوكالة، وما إن تمكّن الجيش السوري وحلفاؤه من بسط سيطرتهم على أغلبية الأراضي السورية حتى تراجعت أغلب الدول عن دعم وكلائها في سوريا، إلا أن الدول الكبرى لا تزال تراوغ على الأراضي السورية وتسعى جاهدة لمنع إنهاء الحرب هناك.
هذا الكلام أكده مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، الذي قال بكل وضوح بأن الدول الغربية تفتعل حججاً جديدة لرفض المشاركة في إعادة إعمار سوريا.
وأوضح نيبينزيا في أعقاب اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول سوريا، يوم الاثنين: "لاحظنا في مداخلات بعض شركائنا أنهم يطرحون شروطاً جديدة لإعادة إعمار سوريا"، وأضاف أنهم "قبل فترة تحدّثوا أن الشرط هو تشكيل لجنة دستورية، ولكن الآن نرى حججاً جديدة".
شروط الغرب الجديدة فيما يخص إعادة الإعمار ليست سوى ذريعة جديدة لإطالة أمد الحرب في سوريا للحصول على أكبر قدر ممكن من المكتسبات، علماً أن هذه الدول استنزفت كل قدراتها للحصول على مزايا من الحرب السورية لكنها خرجت خالية الوفاض، والسؤال اليوم، هل الدول التي لم تستطع أن تحرز أي إنجاز يذكر خلال 8 سنوات من الحرب، تستطيع اليوم بعد أن تضاعفت قوة سوريا ووصلت تقريباً إلى برّ الامان، أن تحصل على مكاسب من هذه الحرب؟.
مماطلة الغرب وإطالته لأمد الحرب السورية لن تقدّم له سوى المزيد من الفضائح وتبرز الدور البشع الذي قام به في سوريا، والحديث عن منطقة آمنة من قبل تركيا وأمريكا لا يخرج عن هذا الإطار، ومن حسن حظ سوريا أن مصالح واشنطن وأنقرة تتعارض بالنسبة لهذه المنطقة الآمنة التي فضحت أطماع كلا الطرفين في سوريا، ولكنها أطماع خالية من أي تنفيذ فعلي على الأرض، ناهيك عن موقف الحكومة السورية الرافض لإنشاء مثل هذه المنطقة واعتبارها تجاوزاً واعتداءً على السيادة السورية، وستكون هدفاً لحملات الجيش السوري في حال إنشائها.
أردوغان يعلم أن إنشاء مثل هذه المنطقة يعدّ أمراً محفوفاً بالمخاطر والخوض في غمار هذا الموضوع قد يكلف الجانب التركي الكثير الكثير، ولكن أردوغان عالق بين فكي كماشة، وبين مجموعة خيارات أحلاها مرُّ، فمن جهة الجيش السوري يتقدّم نحو إدلب وهو يعلم أن تحرير هذه المدينة أصبح قاب قوسين أو أدنى، وأن الجماعات المسلحة التي يدعمها لن تستطيع إيقاف تقدّم الجيش السوري، خاصة أن حلفاء دمشق يقفون إلى جوارها في عملية تحرير إدلب، ومن جهة أمريكا لا تريد أن يقضي أردوغان على الأكراد لكونهم حليف واشنطن الرئيس في سوريا وورقتها الأخيرة، وأي مساس بهم سيعرّض العلاقة التركية الأمريكية لخطر محتوم، وقد قالها الرئيس الأمريكي دونالد صراحة في تصريحاته، عندما غرّد على التويتر، قائلاً: "سندمّر تركيا اقتصادياً إذا هاجمت الأكراد".
أما واشنطن فلا تبخل على دول الشرق الأوسط بإدخالها في دوامة سياسية وعسكرية، حتى لو لم تكن معلومة النتائج، فأمريكا تعشق اللعب في أرض الخصم وتخريبها وتصفية حساباتها مع منافسيها وإلهائهم قدر المستطاع، خاصة إذا كانت تمرّ في مرحلة ضعف داخلية أو خارجية كما هو الحال بالنسبة لها حالياً.
أمريكا في الوقت الراهن تدّعي أنها تبحث عن مخرج لها من الأزمة السورية، وتريد سحب قواتها من هناك بأسرع وقت ممكن، لكن هذا الكلام يتناقض مع نشاطها الفعلي على الأرض السورية والذي تكلّمت عنه مراراً وتكراراً عبر متحدّثيها في البيت الأبيض ووزرائها ومندوبتها في مجلس الأمن فجميعهم تحدّثوا عن رغبة واشنطن بالبقاء في سوريا لأطول فترة ممكنة، لا بل تشكيل جيش قوامه 30 ألف مقاتل في الشمال السوري.
أمريكا أصبح لديها قناعة تامة بأن إسقاط الحكومة السورية أصبح أمراً مستحيلاً، خاصة أن الأخير بات يسيطر على أغلبية أراضي البلاد وبيده كبرى المدن من دمشق مروراً بحمص والساحل وصولاً إلى حلب ناهيك عن درعا والسويداء وغيرها، لذلك الحل الأمثل للبقاء الأمريكي هو إعادة الإعمار من "مطمورة" الملك السعودي الذي لا يبخل على ترامب بالعطايا المالية، وبهذا يكون ترامب قد أعاد السعودية من جديد إلى دائرة الأزمة السورية بعد أن كانت قد خرجت منها بخُفي حنين، وفي نفس الوقت يدغدغ لها وجعها الدائم وهو "محاربة النفوذ الإيراني" في المنطقة، وفي نفس الوقت تعمل على إشغال روسيا في ملف جديد، حيث لا يخفى على أحد القوة والقدرة التي أصبحت تملكها روسيا في سوريا بعد أن تحالفت مع إيران في سوريا ودعما كليهما الحكومة السورية سوياً لتصبح الكُرة في ملعبهم يصوّبونها على المرمى الذي يريدونه.
بالمختصر يمكننا القول لقد فشلت جميع المخططات الصهيونية والأمريكية لتفتيت سوريا وإضعافها، وشكلت عودة تماسك الدولة السورية والجيش السوري على وجه التحديد، صدمة لكيان العدو، خاصة بعد استعادة السيطرة على أغلب مساحة البلاد، والتوجه حالياً نحو تحرير "إدلب"، إذ قطع الجيش السوري أشواطاً كبيرة في هذا الاتجاه، وكان هذا الأمر كفيلاً لحدوث انهيار نفسي لدى الجماعات الإرهابية المسلحة التي لم تبخل "إسرائيل" في دعمها، وما الهجوم الأخير إلا محاولة فاشلة لإعطاء روح معنوية للإرهابيين الذين ينهارون في "إدلب" ومحيطها.
ومن هنا يبدو واضحاً أن مجريات الميدان السياسي السوري ومسار المعارك على الأرض لا يوحي أبداً بإمكانية الوصول إلى حل سياسي دولي توافقي للحرب على الدولة السورية بسهولة، فما زالت المعارك تدور على الأرض وبقوة وزخم أكبر، ومع دوي وارتفاع صوت هذه المعارك، يمكن القول أنه بهذه المرحلة لا صوت يعلو على مسار الحسومات العسكرية لجميع الأطراف، من الشمال إلى الجنوب مروراً بالشرق السوري، فالمعارك تسير بعكس عقارب الحلول السياسية، فكلما سمعنا مؤشرات عن حل سياسي يأتي من هنا وهناك، نرى حالة من التصعيد العسكري غير المسبوق على مختلف الجبهات السورية المشتعلة، وهذا ما يؤكد حتمية أن خيارات الحسم الميداني وميزان القوة بالميدان هو من سيحسم بالنهاية المعركة على الأرض السورية.