الوقت- يبدو أن يوم القدس هذا العام كان أكثر تميّزاً على جميع الأصعدة، فقد مرّ اليوم الذي بات رمزاً للقضيّة الفلسطينية وعنواناً لجوهر الصراع القائم منذ أكثر من 70 عاماً في ظل ظروف هي الأكثر حساسيّة منذ عقود.
أسباب عدّة جعلت من يوم القدس في هذا العام أكثر تميّزاً، منها ما يتعلّق بالجانب الإسرائيلي، وآخر يتعلّق بالجانب الفلسطيني، ومنها ما يتعلّق بالوضعين الإقليمي والدولي، يأتي إحياء يوم القدس هذا العام في ظل استمرار مسيرات العودة على حدود قطاع غزة والتي بدأت في 30 آذار 2018 (للجمعة الحادية عشرة على التوالي) ما أدّى إلى ارتقاء 135 شهيداً وإصابة أكثر من 15 ألفاً آخرين في غزة والضفة منذ التاريخ المذكور.
لم تنحصر المتغيّرات التي طالت مشاهد إحياء مراسم يوم القدس هذا العام بالحضور الشعبي الواسع، وإن كانت منه وأهمه، أو بتأدية نحو 290 ألف مواطن، من مختلف مناطق القدس وأراضي 1948، صلاتهم في المسجد الأقصى، بل طالت العديد من الجوانب المرتبطة بالقضيّة الفلسطينية، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى جملة من النقاط، أبرزها:
أوّلاً: انعقد يوم القدس هذا العام في ظل ظروف فائقة الحساسيّة لأسباب تبدأ بموضوع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتمرّ عبر صفقة القرن التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وتسليم القدس والمقدسات للكيان الغاصب، ولا تنتهي بمحاولات تطبيع غير مسبوقة لبعض الأنظمة العربيّة، الخليجية تحديداً.
ثانياً: رغم أنّ التحدّيات هذا العام كانت كبيرة، إلا أن حجم المشاركة كان أكبر من السابق ما يؤكد أنّ الجماهير التي تدفقت إلى شوارع العالم الإسلامي وغيره من دول العالم، مصرّة على مواجهة التحدّيات الآنفة الذكر، الإصرار الفلسطيني، العربي والإسلامي أنتج تحدّيات كبيرة للكيان الإسرائيلي بدأت من كابوس" الطائرات الورقية التي دفعت بالإسرائيليين للاستنجاد بالصناعات الجوية الإسرائيلية، ومرّت من حدود حركات المقاطعة BDS التي نجحت في إلغاء المباراة بين الأرجنتين والكيان الإسرائيلي، ولن تنتهي عند الجمعية العامّة للأمم المتحدة التي تنتظر اجتماعاً طارئاً يهدف لإعادة مشروع إدانة "إسرائيل" وتوفير الحماية للشعب الفلسطيني إلى الواجهة والتصويت عليه بعد أن كان قد سقط في مجلس الأمن.
ثالثاً: إعلامياً، ورغم بعض التخاذل الإقليمي، إلا أن حجم الحضور في يوم القدس من جهة، وحجم التضحيات التي قدّمها الشعب الفلسطيني على حدود غزّة عزّزت من النقمة الغربية الشعبوية على الانتهاكات الإسرائيلية، لا ريب في أن تزامن يوم القدس هذا العام مع الذكرى السبعين للنكبة، وبعد فترة وجيزة على قضيّة نقل السفارة، فضلاً عن تزامنه مع مسيرات العودة الكبرى، أفضت نوعاً من الخصوصيّة على مراسم الإحياء.
رابعاً: لا بدّ من الإشارة إلى الدور الفريد لحركات المقاطعة التي باتت تعلم جيّداً من أين تُأكل الكتف الإسرائيلية عبر توجيه الضربة تلو الضربة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، حركات المقاطعة عزّزت مقولة المواجهة الشاملة وضرورة اتخاذ النضال مسارات عديدة، إن نتائج حركات المقاطعة عزّزت واقعية المقولة التي تؤكد أن القضية الفلسطينية هي قضيّة كل الأحرار في هذا العالم كون أن أشكال التضامن مع القضية الفلسطينية لم تعد منحصرة في البعدين العربي والإسلامي، بل منها ما هو مدفوع بدوافع إنسانية أو حقوقية بحتة، بعبارة أدقّ نجحت حملات المقاطعة في إيلام الجانب الإسرائيلي عبر نشر الوعي والمعرفة بما يجري بحقّ الشعب الفلسطيني على الساحة الدوليّة، الأمر الذي قصم ظهر القدرات الإسرائيلية الناعمة التي تمّ بناؤها على هيكل الهولوكوست.
خامساً: الحضور الشعبي الواسع في إيران والعراق واليمن ولبنان، إضافةً إلى مراسم الإحياء في العديد من الدول العربية والأوروبية، تؤكد فشل الكيان الإسرائيلي في جعل الصراع فلسطينياً-إسرائيلياً، بل يبدو أنّه سيتخطّى حدوده العربيّة ويصبح صراعاً عالمياً إنسانياً، رغم أن الحضور الشعبي من الثوابت الفلسطينية للوقوف في وجه الاحتلال والمطبعين أيضاً، إلا أن المتغيّر في يوم القدس هذا العام هو الزخم الذي يتّجه لإعادة القضية الفلسطينية إلى مربعها الحقيقي في ظل محاولات تغييبها منذ بدء ما يسمى بـ "الربيع العربي".
ختاماً، يكشف حجم الحضور الكمّي والنوعي في مراسم يوم القدس العالمي أن القضيّة الفلسطينية لا تزال حاضرة بقوّة في وجدان الأمة كونها القضيّة المركزيّة ولعلّ الرسالة الأبرز التي وجّهها هؤلاء ردّاً على كل المحاولات لتصفية القضية الفلسطينية: "سنصلّي في القدس بعد تصفية صفقة القرن".