الوقت- يوماً بعد يوم تغرق أمريكا في عزلتها بسبب قرارات رئيسها المتهوّر دونالد ترامب، عزلة تجسدت قبل 4 أيام في مجلس الأمن بعد أن ذهبت أمريكا إلى أبعد مدى كان ممكناً تصوره في دعم الكيان الإسرائيلي، وتلبية كل مطالب نتنياهو زعيم اليمين المتطرف الإسرائيلي، على حساب المصالح والقيم الأمريكية، هي مرات كثيرة فشلت فيها سفيرة أمريكا في الأمم المتحدة السيدة نيكي هيلي، التي تبدو أكثر دعماً لـ "إسرائيل" من ممثلها في الأمم المتحدة، في تمرير مشروع قرار حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مشاريعها المحبطة تقطّر انحيازاً لـ "إسرائيل" في كل سطر من سطورها، وتنطوي على أحد أشد الانتهاكات للقانون الدولي، ولقرارات المجلس الذي تحاول استخدامه مجدداً في الاتجاه الذي تريده.
الخطير في نتائج المشروع الأمريكي الأخير كانت كارثية، حيث وصل الأمر إلى حدّ أن مشروع قرار تقدمّه أحد أهم أقطاب العالم لا يحصل سوى على صوتها فقط، وتفشل في إقناع أي دولة أخرى من بين الدول الأعضاء الأربع عشرة في المجلس بالتصويت لمصلحته، وهنا يقول محللون إنّ هذا الأمر يشكّل ذروة العزلة التي لم تواجه أمريكا مثلها من قبل.
هذه العزلة تجسدت أيضاً مطلع الأسبوع الماضي حين اضطرت أمريكا لاستخدام حق النقد الفيتو مرة أخرى لعرقلة مشروع قرار قدّمته الكويت لدعم فلسطين في مجلس الأمن بعد حصوله على أكثر من 10 أصوات من الأعضاء الـ 14 لولا الموقف الأمريكي الذي أحبطه، وكشف مدى عزلة أمريكا، في آن معاً.
وهنا يقول محللون سياسيون أمريكيون أنه بالرغم من أن نيكي هيلي قد استخدمت الفيتو ضد الشعب الفلسطيني أكثر من مرة، إلا أنّ القرار الأمريكي الأخير بحق القرار الكويتي كان مخجلاً للأمريكيين أصحاب الضمائر والنزعات الإنسانية، وبحسب سياسة ترامب يظهر لنا أنه لا يعنيه هذا القسم من الأمريكيين لأن أنظارهم موجّهة باتجاه قسم آخر وجدنا ممثلين له في الاحتفال بنقل سفارة أمريكا إلى القدس، والذي حفل بما يدل على أن الصهيونية وصلت إلى أعلى مراحل تطرفها.
أوجه العزلة الأمريكية
قال رئيس المجلس الأوروبي، دونالد تاسك، في قمة مجموعة الثماني التي تعقد في كندا، إن "أكثر ما يقلقني هو حقيقة تحدي النظام العالمي القائم على قواعد متعددة" وأضاف إن "هذا ينفّذ بشكل يدعو للاستغراب من طرف أمريكا، وليس من قبل مشتبهين عاديين"، هذا الكلام كان بمثابة اعتراف بأن أمريكا قد أصبحت اليوم اللاعب الأبرز الذي يسبب الاضطراب والمشكلات في العالم، حيث إن نظام العالم الحالي بُني بعد سنوات من التعاون بين أمريكا وأوروبا، إلا أن واشنطن تحاول اليوم إنشاء نظام جديد يكرّس الشعار الذي أطلقه ترامب خلال حملته الانتخابية "أمريكا أولاً".
في هذا النظام الجديد، تنوي أمريكا فرض إرادتها على بعض الدول وإجبار الآخر على الطاعة، ومن الأمثلة على ذلك قيام ترامب بالخروج من ميثاق باريس، والخروج من الاتفاق النووي مع إيران، ونقل السفارة إلى مدينة القدس المحتلة، وزيادة التعريفات الجمركية على السلع الخارجية.
في جميع الحالات الأربع، كان المجتمع الدولي يعارض بشدة النزعة الانفرادية المتطرفة للقومية الأمريكية التي زادت في عهد ترامب، لدرجة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل تشكيل قمة مجموعة السبع في كندا، بقيام المشاركين في قمة مجموعة السبع الكبار في كيبيك الكندية يومي 8-9 مايو، بالتوقيع على الوثيقة النهائية دون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكتب ماكرون تغريدة في صفحته على تويتر جاء فيها: "قد يكون الرئيس الأمريكي لا يعارض العزلة ونحن من جانبنا لا نعارض التوقيع على اتفاقية بين الدول الست".
ووجّه ترامب، عبر صفحته في تويتر، انتقاداً لماكرون ورئيس وزراء كندا جاستين ترودو لقيامهما بفرض قيود تجارية، وأشار ترامب إلى أن الاتحاد الأوروبي لديه فائض في التجارة مع أمريكا بقيمة 151 مليار دولار، وأتاوات لا تسمح للمنتجات الزراعية الأمريكية بدخول أسواقها.
وفيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران، قال المجتمع الدولي أيضاً إنه سيواصل الحفاظ على هذا الاتفاق ولن يسمح لأمريكا وحدها بفرض إرادتها على الآخرين، أيضاً وفيما خصّ التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، أيّد سبعة أعضاء فقط القرار، حيث هددت واشنطن الآخرين بالانتقام المالي منهم. وأخيراً، حذّرت أوروبا والصين وكندا والمكسيك الشركاء التجاريين الرئيسيين لأمريكا من الانتقام من السياسة الضريبة التي اعتمدتها واشنطن بحق البضائع الخارجية لبلادهم حيث رفعت كندا شكوى إلى منظمة التجارة العالمية على أمريكا بعد فرض الأخيرة رسوماً على واردات الصلب والألمنيوم الكندية (25% و10%)، ووصفت وزارة الخارجية الكندية الرسوم الأمريكية بغير المشروعة داعية الاتحاد الأوروبي إلى التعاون في سبيل تحدي هذه التدابير.
ختاماً يمكننا القول إننا نقف بالفعل أمام مرحلة جديدة في التوجهات الخارجية الأمريكية، قوامها الضبط الاقتصادي "القومي" في الداخل، وخفض الالتزامات الأمريكية في الخارج، وإعادة تركيب نظام العولمة الأمريكي، بما يخدم هدفين في آن واحد: احتواء صعود الصين وروسيا وإيران، ومواصلة ترسيخ الزعامة الأمريكية على العالم، لكن نتائج هذه السياسة أتت عكسية وزادت من الفوضى العالمية والعزلة الأمريكية.