الوقت - الهجوم التركي على مدينة "عفرين" السورية قبل عدة أسابيع وبمشاركة عدد من الجماعات الإرهابية والتكفيرية تحت لافتة ما يسمى "الجيش الحر" مثّل بداية لمرحلة سياسية تنتهجها أنقرة لتأسيس إمبراطورية عثمانية جديدة بقيادة "رجب طيب أردوغان".
وتشير التقارير الميدانية إلى أن الجيش التركي وحلفاءه الذين يتشكل معظمهم من العناصر الهاربة من التنظيمات الإرهابية كـ "داعش" و"جبهة النصرة" تمكنوا وبصعوبة من السيطرة على مدينة "عفرين" شمال غرب سوريا بعد شهرين من المعارك غير المتكافئة مقابل قوات "حماية الشعب الكردي" المنضوية تحت "حزب الاتحاد الديمقراطي".
وبالتزامن مع هذه التطورات أعلن أردوغان بدء المرحلة الثانية ممّا يسمى عملية "غصن الزيتون" قائلاً: "إنّ وقت السيطرة على مدن أخرى في الشمال السوري بينها "منبج" و"تل أبيض" و"الحسكة" و"كوباني" وغيرها قد حان".
في ذات السياق ذكرت وسائل الإعلام المقربة من "حزب العدالة والتنمية" أنّ أردوغان أعلن خلال اجتماع مع قادة وأعضاء الحزب عزمه تعيين محافظ لـ "عفرين" السورية.
ربّما يبدو للوهلة الأولى أن هذه المواقف لا تحظى بأهمية، إلّا أن الوقائع تؤكد أن مشروع أردوغان في تعيين محافظ لعفرين يأتي في سياق مساعيه الحثيثة لإحياء "الامبراطورية العثمانية".
ففي القرن السابق كان القادة الأتراك يسعون إلى ضمّ مناطق من دول أخرى إلى بلادهم وتعيين ولاة من قبلهم لحكم هذه المناطق بهدف توسيع نفوذهم في عموم المنطقة، وهذا ما يقوم به أردوغان أيضاً في الوقت الحاضر، وهو ما يعكس نواياه لتحقيق طموحاته الشخصية الرامية إلى إحياء "الامبراطورية العثمانية". والمثال الآخر الواضح على هذا التوجه هو تصريحات أردوغان نفسه حول إمكانية بدء هجوم تركي على مدينة "سنجار" في شمال غربي العراق.
والتساؤل المطروح، هل يتمكن الرئيس التركي من ترجمة أحلامه التوسعية على أرض الواقع من خلال اقتطاع أجزاء من الأراضي السورية؟
للإجابة عن هذا التساؤل ينبغي الإشارة إلى عدّة أمور يمكن إجمالها بما يلي:
مساعي أردوغان لتوظيف أزمات المنطقة
الأمر المهم الأول الذي يسعى أردوغان لتحقيقه يكمن بمحاولة ضمّ مناطق من دول مجاورة إلى تركيا لإحياء "الامبراطورية العثمانية"، وهذا يمثل في الحقيقة هدفاً أساسياً للكثير من قادة حزب "العدالة والتنمية" الذين يسعون "تحت غطاء مذهبي" للوصول إلى هذا الهدف من خلال محاولة السيطرة من جديد على مناطق كانت تابعة لتركيا قبل الحرب العالمية الأولى.
ومن خلال القرائن والشواهد المتوافرة ومنها عزم أردوغان على تنصيب محافظ لـ"عفرين" ومناطق أخرى بينها "جرابلس" و"إعزاز" و"الباب" يترسخ الاعتقاد السائد بأن القيادة التركية عازمة على الاحتفاظ بهذه المناطق إلى الأبد، وهو ما يتعارض تماماً مع السيادة السورية على هذه المناطق.
قمع الأكراد السوريين، وحل أزمة النازحين
البعد الآخر الذي يحظى بأهمية خاصة ويكشف عن نوايا أردوغان الحقيقية في الهجوم على "عفرين" هو المحاولات الحثيثة لتخطي الحدود السورية من قبل الجيش التركي. والجدير بالذكر أن ما يقرب من 800 كيلومتر من الحدود التركية - السورية التي تبلغ 930 كيلومتراً كانت إلى وقت قريب - قبل الهجوم التركي على عفرين - تحت سيطرة الأكراد السوريين.
ومن المتوقع أن يشنّ الجيش التركي هجوماً على مواقع "حزب العمال الكردستاني" المصنف كمنظمة إرهابية من قبل أنقرة لتعزيز الوجود التركي في مناطق شمال سورية بعد إحكام السيطرة على عفرين.
من جانب آخر تهدف مساعي أنقرة للسيطرة على مناطق واسعة في شمال سوريا إلى التخلص من مشكلة النازحين السوريين الموجودين في الأراضي التركية والبالغ عددهم حوالي 3 ملايين شخص من خلال محاولة نقلهم وإسكانهم في تلك المناطق.
ويُعتقد أن الهدف من وراء هذا الإجراء هو محاولة تغيير البنية الديموغرافية في شمال سوريا لمصلحة الجانب التركي، أي بمعنى آخر السعي لأن يكون الأكراد أقلية في الشمال السوري، وبالتالي أن تذهب مساعيهم لإقامة "حكم ذاتي" في هذه المناطق أدراج الرياح.
لكن من المرجح أن السيطرة على "عفرين" لن تخدم سياسة أردوغان في تحقيق أحلامه التوسعية في المنطقة؛ ليس هذا فحسب، بل من الممكن أن يؤدي ذلك أيضاً إلى إضعاف موقف ومكانة "حزب العدالة والتنمية" في الأوساط السياسية سواء الداخلية أم الإقليمية والدولية.
معارضة الغرب
من المعروف أن إمكانية تنفيذ سياسة أردوغان التوسعية في عموم المنطقة وسوريا على وجه التحديد بحاجة إلى ضوء أخضر من الدول الغربية ولاسيّما من قبل أمريكا، الأمر الذي لا يمكن أن يتم في هذه المرحلة بالذات، وسيبقى تحقيق ذلك أشبه بحلم بعيد عن الواقع، لأن تركيا التي هي جزء من حلف شمال الأطلسي "الناتو" يجب ألّا تتصرف بما يتعارض مع توجهات واشنطن والناتو بشكل عام؛ فهذه التوجهات ترمي إلى التحكم بأجزاء واسعة من الأراضي السورية للاستفادة منها كورقة ضغط على دمشق وحلفائها في أي مفاوضات سياسية قادمة لإنهاء الأزمة السورية بما يخدم مصالح الغرب والأطراف الإقليمية الموالية له، وما يعزز هذا الاعتقاد أيضاً هو وصول شخصيات متشددة إلى البيت الأبيض أمثال وزير الخارجية الجديد "مايك بومبيو" ومستشار الأمن القومي الأمريكي "جون بولتون".