الوقت- أربعة عقود من الزمن ظل فيها الرئيس السابق علي عبدالله صالح يرقص على رؤوس الثعابين منفرداً بواجهة المشهد السياسي اليمني، فترة خيالية كانت كفيلة بأن تختزل حياة كل اليمنيين في شخص هذا الرجل الذي أصبح جزءاً من حياتهم؛ فامتزجت ذكرياتهم به؛ وارتبطت اتجاهاتهم بملامحه؛ واقترن مستقبلهم برصيده، حتى ظن أنصاره أنه مخلد لن يموت؛ ورأى المعجبون والمحبون أنه السياسي الذي لا يقهر. كان قريباً من شعبه، فبإشارة واحدة من سبابته يحشد الملايين لسبب أو دونه، وبعبارة ساخرة على شاشات التلفزة يؤجج المشاعر ويسرق اهتمامات العامة وحديثهم، مناوراً تارة ومتناقضاً بين أدغال المفارقات تارة أخرى.
اليوم لم تكلف تلك الملايين نفسها للسؤال عن مصير الجثمان وموعد الدفن؛ بل رأت أن الاحتفال بمصرع زعيمها أمر يبعث على البهجة، وأن المشاركة فيه فرض عين لا ريب فيه.
لم يكن هذا الصمت المفاجئ حالة جديدة فيما يتعلق بردود الأفعال تجاه الأحداث اليمنية؛ ففي العام 2011م شهدت اليمن حراكاً شعبياً واسعاً جعل مستقبل اليمن على المحك، وانقسم فيه اليمنيون بين مؤيد ومعارض لحركة التغيير في اليمن. وفي منعطف من منعطفات الأحداث خسر المؤتمر الشعبي العام الصف الأول من قياداته في تفجير جامع النهدين، وأصيب الرئيس السابق إصابه بالغة وسط تكتم إعلامي شديد نقل على إثرها إلى المملكة العربية السعودية لتلقي العلاج. يومها ألتزمت الجماهير المليونية الصمت المريب، ولم يصدر الحزب أي بيان يوضح للشعب ما جرى اثباتاً أو نفياً، ولم يندد أو يشجب ما حصل رغم امتلاكه وسائل الإعلام الرسمية؛ في حين مارست القوى المناهضة لنظامه كل الأشياء المتاحة وغير المتاحة لكسر شوكة المناصرين وتثبيط عزيمتهم وثنيهم عن تأييده، واستقطابهم للانضمام لساحة الثورة. وبمجرد أن تكللت العملية الجراحية بالنجاح التهبت سماء العاصمة صنعاء وبقية عواصم المحافظات اليمنية بالألعاب النارية ابتهاجاً بتماثل الزعيم المفدى للشفاء. من هنا يجزم الكثيرون أن أنصار صالح لا يجيدون سوى التصفيق والتزيين ورفع الصور، لكنهم كقصاصات الورق عندما يتطلب الأمر مواجهة ميدانية، أو تحرك مشروط بالتضحية.
يعيش اليمنيون التجربة الديمقراطية شكلاً لا جوهراً، فتركيبة المجتمع القبلية لا تتناغم مع مجتمع مدني تحت سقف نظام نزيه يكفل الحقوق والحريات، ويمنح المواطنة المتساوية للجميع، ويدفع بالكفاءات إلى واجهة الحكم. لذا فهم يأتمرون بأمر رئيس الحزب من منطلق الولاء القبلي أو الجهوي بعيداً عن برنامج الحزب وادبياته؛ وهذا هو سر الانشقاقات السريعة لأبسط المواقف واتفه الأسباب؛ إذ تستطيع القبيلة قلب الموازيين في لحظة دون الرجوع لمنطقية الأسباب ودواعي القرار. وتعد المصلحة هي البوصلة التي تحدد قبلة أي إتجاه وتحرك، وهذا لا يلغي وجود استثناءات كثيرة تشذ عن هذه الفلسفة سيما في الأمور المصيرية المستندة على ثوابت وطنية وأعراف إجتماعية بصبغة الدين.
في العام 2014م وتحديداً عند دخول جماعة "أنصار الله" محافظة عمران باتجاه العاصمة صنعاء، كانت أسرة "آل الأحمر" تعول على قبيلة حاشد تعويلاً مطلقاً، وكانت خطاباتهم وتصريحاتهم مغلفة بالتحدي الصريح ومبطنة بالثقة الباعثة على الاطمئنان، لكن الواقع أثبت عكس ذلك، فلم يكلف سقوط القبيلة وتسليمها سوى ساعات فقط دون أي مواجهات. والشاهد هنا هو أن القبيلة تسير وفق المصلحة التي يحددها شيوخها، وفي حالة تعدد المصالح فإن الأمر يخضع للمفاضلة والترجيح، ففي ذلك الحين -على سبيل المثال- كانت مصلحة القبيلة تقتضي الولاء للرئيس السابق علي عبدالله صالح لسبب أو لآخر.
بعد ثورة الـ 21 من سبتمبر، تغيرت المعادلات على أرض الواقع بعد تطبيع الأمور في العاصمة صنعاء، وغادر حزب الإصلاح المشهد السياسي بعد فرار أبرز قاداته العسكريين إلى الرياض، وهو ما دعا الأخيرة للتدخل عسكرياً لإنقاذ أوراقها تحت سقف إعادة الشرعية اليمنية.
منذ الوهلة الأولى لبداية عاصفة الحزم كان قرار الرئيس السابق واضحاً، فقد أعلن موقفه الرافض للعدوان، وشكّل تحالفاً مشتركاً مع جماعة "أنصار الله" للتصدي للعدوان، ودعا أنصاره لوحدة الصف ولم الشمل وتوحيد الجبهة الداخلية، وتمخّض ذلك عن تشكيل مجلس سياسي أعلى لإدارة شؤون البلاد، أعضاؤه من كآفة القوى الداخلية المناهضة للعدوان. ولم يمض وقت قصير حتى تشكَّلت حكومة إنقاذ توزعت حقائبها مناصفة بين الشريكين وحلفاؤهما، إلا أن اللجان الثورية التي كانت قائمة بأعمال الوزارات ظلت تزاول عملها الرقابي في الظل، وهذا بدوره شكّل حساسيات وصدامات في الوزارات التي تتبع حصة الرئيس السابق، ليتطور المشهد تدريجياً نحو التعقيد.
خلال ثلاثة أعوام من الحرب الممنهجة وتبعاتها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، برزت إلى الواجهة الكثير من الإفرازات والتراكمات الناتجة عن احتكاكات قبائل طوق العاصمة الموالية لـ "صالح" مع جماعة "أنصار الله"، والتي كان دائماً يخمدها الرئيس السابق بحجة الحفاظ على وحدة الصف، ومع إرتفاع حالة الاحتقان الشعبي واتهامه بخذلان أنصاره وسكوته على اهانة كوادره، أحسّ "صالح" بأن عقد القبيلة بدأ ينخرط من يده رويداً بالتوازي مع تسرب كوادره وأعضاء حزبه، فعمل على إيجاد استراتيجية تحول دون ذلك الانصهار البطيء تمثلت في مطالبته بإعادة النظر في الشراكة، والعمل على تجييش الجبهة الإعلامية ضد الشريك. كانت دول العدوان تعلم جيداً أن هذا هو مربط الفرس، خصوصاً بعد أن تكسرت معاولها أمام صخرة صمود وتلاحم الجبهة الداخلية، فعملت على تأجيج هذا الخلاف وتوسيع نطاقه من فوق الطاولة وتحتها، ويبدو أن الرئيس السابق كان ينوي بداية انتفاضته في الـ 24 من أغسطس يوم أن جمع حشوده إلى ميدان السبعين لذات الغرض، لكنه أجّل ذلك بسبب انكشاف الأمر محلياً وعدم ملائمة التوقيت. اليوم وبعد ثلاثة أشهر من الحشد المليوني لأنصاره، أعلن "صالح" انتفاضته مع عدوان الخارج ضد شريك الداخل، ولم يجد من أنصاره معيناً، ولا من قبائل الطوق استجابة، ليس فقط لأنهم سئموا من خذلانه وملوا خطاباته العقيمة فحسب، ولكن لأنهم وجدوا في الإنتفاضة خيانة للأرض والعرض، واستخفافاً بدماء الشهداء وتضحيات الشرفاء، خصوصاً وانتفاضته تلك مصدر سعادة للشقيقة وشقيقاتها.
بقلم: فؤاد الجنيد
المقال يعبر عن رأي الكاتب فحسب، وبالتالي فإن الآراء المذكورة لا تعبّر بالضرورة عن رأي "الوقت"