الوقت- "اسبرطة الصغيرة" مصطلح أطلقه الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس، وزير دفاع الرئيس الأمريكي الحالي على الامارات، للحديث عن مدينة تلعب أدوار الدول، أو كما يقال تمضغ أكثر مما تستطيع أن تبلع، بعد أن صبح ولي العهد الإماراتي يحل ويربط في المنطقة لا بل حتى يتدخل في تعين ولي العهد للشقيقة الكبرى "السعودية".
اذ انشغلت جميع وسائل الاعلام هذه الفترة بالزلزال السياسي الذي حدث في السعودية بعد قيام وزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان بإقصاء ابنه عمه ولي العهد محمد بن نايف من ولاية العهد واستعداده للانقضاض على عرش أبيه، ولكن ما لفت الانتباه أيضاً في هذا الزلزال أو الانقلاب هو طبيعة الدور الإماراتي فيه، بالاضافة الى تعاظم الدور الامارتي في المنطقة وانتهاجها نهجاً صقوريا اتجاه الأزمة القطرية، فما هو الدور الحقيقي الذي يلعبه حالياً محمد بن زايد في المنطقة وما هي الأوراق التي يلعبها؟
أولاً : سعى محمد بن زايد وعبر سفيره في واشنطن، يوسف العتيبة ابن وزير النفط السابق الى الترويج لمحمد بن سلمان وجند ماكينة اعلامية كبيرة من اللوبي الأماراتي والسعودية وحتى الامريكي لتهئية الجو والترويج لصديقه محمد بن سلمان كمرشح جدي يلقى قبول الادارة الامريكية والتي لها اليد الطولى في تنصيب الملوك في دول مجلس التعاون، وهو ما بدى جلياً من خلال اجتماع العتيبة أربع مرّات مع وزير الدفاع الأمريكي خلال فترة قصيرة للترويج لابن سلمان على أنه قيادة "عسكرية قوية " قادرة على تنفيذ الاجندات الامريكية في المنطقة أكثر وأفضل من ابن عمه وزير الداخلية محمد بن نايف رجل أمريكي الأقوى "سابقا" في المملكة، وهو ما أكدته صحيفة ديلي بيست الأمريكية التي نشرت مجموعة وثائق مسربة ( في 55 صفحة)، من البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي بواشنطن يوسف العتيبة، تتضمن مراسلات تمتد من عام 2014 إلى مايو/أيار 2017، وتكشف العديد من التفاصيل المتعلقة بتواصل السفارة الإماراتية في امريكا مع شركات علاقات عامة لتشويه صورة حلفاء واشنطن والتأثير على سياستها الخارجية.
ثانياً: تعلم الأمير الإماراتي مبكراً أن زمان الاعتماد على النفط وحده لتنفيذ أجندات سياسية خارجية وداخلية قد ولّى، فتوجه لاستثمار الفائض الكبير التي تملكه بلاده وتوظيفه لخدمة أجندته السياسية بطريقة مختلفة، اذ أدرك ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد أهمية الاعلام كسلاح ذو تأثير نوعي ودوره في الحرب الناعمة فقام بانشاء عشرات المواقع الالكترونية التابعة لأبو ظبي، كذلك دعم العديد من الصحف العربية وأغدق عليها ملايين الدولارات وجنّد عشرات الأقلام الصحفية لخدمة أجنداته الشخصية، وصولا الى انشاء ودعم قناة سكاي نيوز عربية التي تبث من الامارات والتي كانت رأس الحربة الامارتية في الهجوم على قطر وخصصت اغلب تغطيتها الاعلامية لما اسمته "فضح قطر ودعمها للارهاب".
ثالثاً: سعى محمد بن زايد الى انشاء العديد من المراكز الدراساتية والمؤسّسات التي تعنى بالسياسة الخارجية، في الدول الأوروبية وأمريكا، نذكر منها على سبيل المثال (مركز أسبن، معهد الشرق الأوسط، اتلانتك كاونسل، بروكنز، أميركان بروغرس، مؤسّسة راند...والقائمة تطول) تكتب حسب طلب الأمير وحسب هواه، لتعود وسائل الاعلام العربية التابعة لابن زايد وتستفيد مما تكتبه تلك المراكز وتستشهد به على صحة رؤية الاماراتية ومحاربة الاجندات المعارضة.
رابعاً: أدرك محمد بن زايد أن الطريقة الأهم لخطب ود أمريكا هو التقارب المباشر مع الكيان الاسرائيلي، فغطى بتطبيعه على من سبقوه من دول مجلس التعاون، وأصبح التنافس السعودي والإماراتي علناً في هذا الموضوع، فأقام علاقات واسعة مع تل أبيب من باب العلاقات التجارية والسياحية لتصل الى مستوى العلاقات السياسية وتقديم عدة عروض لتطبيع كامل مع اسرائيل وفتح الأجواء والمطارات الاماراتية للمستوطنين وشركات الطيران العبرية.
خامساً: من جهة أخرى يرى مشروع محمد بن زايد السياسي، أن القيادة الامريكية تطرب على وقع الحديث عن ايران "كعدو" لدول مجلس التعاون وزيادة الفرقة والخلاف بين العالم الاسلامي، فلم يوفر فرصة سواء في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو وسائل الاعلام للحديث عن ما يسميها "الممارسات الإيرانية التي تقوض الأمن في منطقة الشرق الأوسط، و تدفعها إلى مصيبة"، حسب وصفه، أملاً في رفع أسهمه في واشنطن.
سادساً: شكلت الأزمة القطرية فرصه جيدة لمحمد بن زايد لإضعاف الدور القطري أو القضاء عليه باعتباره المنافس الأكبر للدور الإماراتي (اذا ما اخذنا بعين الاعتبار انكفاء الكويت وسلطنة عمان عن لعب هذا الدور وانشغال البحرين بأزمتها الداخلية وصغر مساحتها، كذلك انشغال السعودية بالصراع على العرش)، فظهر ابن زايد كأحد "صقور" الأزمة والطباخ الرئيسي لها، في مسعى لتشويه سمعة قطر دولياً وتحجيم دورها الإقليمي والتحريض على استهدافها أمنيا وسياسيا واتهامها بتمويل العمل الإرهابي، فأبدى تطرفاً اتجاه الملف القطري أكثر من أي دولة أخرى رغم سعية الدؤوب الى ابراز ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الواجهة، ولكن الحصار الاقتصادي الذي فرضته أبو ظبي على الدوحة لا يقل أهمية وصعوبة عن الحصار السعودية، اذ رفضت الموانئ الاماراتية استقبال اية ناقلة نفط تتوجه الى قطر، كذلك تحدثت وسائل اعلامية عديدة عن نية الامارات سحب أصولها المالية من قطر والتي تقدر بمليارات الدولارت (السعودية والامارات تملك 18 مليار دولار في البنوك القطرية) وهو ما يعني عملياً انهيار القطاع المصرفي في قطر.
اذا تحاول الامارات وفق رؤية محمد بن زايد أن تلعب دوراً ونفوذاً جيوسياسياً سيغطي عاجلاً أو أجلاً على الدور السعودي (الذي اصبح مهدداً) والقطري (الذي بدأ يتصدع)، وهو ما ينذر بتنافس بين محمدين (محمد بن زايد ومحمد بن سلمان) في المرحلة القادمة للظفر بالرضى الامريكي.
هامش: Sparta اسبرطة هي مدينة يونانية مشيدة منذ مئات السنين قبل الميلاد، بالقرب من ضفاف نهر يوروتاس، والمعروفة بـ"الدولة المدينة"، التي حافظت على استقلالها عن امبراطورية أثينا، دافعة ثمن ذلك حروباً دامية، وكان ازدياد ثروة الدولة، وتوسع نفوذها الواقعي والمعنوي على ما جوارها من المدن الاغريقية، أحد النتائج المباشرة لعدة حروب خلال تلك الحقبة الزمنية وهو ما أدى بنهاية المطاف الى زوالها.