الوقت- لا یخفی علی أحدنا تاریخ نشأة أمریکا حالیا على حساب سکان القارة الأصلیین والتی ما لبثت أن بدأت بهجرة لأهداف تجاریة حتی تحولت إلی حروب واستملاك لأراضی الهنود الحمر، ليلحقها تشکل لشبه دویلات تعتمد علی تجارات مع أوروبا وجنوب القارة الأمریكية، واستجلاب واسترقاق لسکان من أصل أفریقی للإتجار بهم واستعبادهم في خدمة المهاجرین الجدد، ولکن وبسبب ازدیاد أعداد السود بشکل کبیر بدأت تتشکل مناطق فصل عنصری في أمریکا أفرزت حروباً أهلیة اعتقد الجمیع وقتها أنها انتهت مع قرار الرئیس الأمریکی ابراهام لینکولن بإلغاء قوانین العبودیة، فما کان من الکثیرین أن حولوا من هذه الشخصیة إلی أسطورة وبطل تاریخي کمنقذ من العبودیة، لکن الواقع کان شيئاً آخر نقرأه من بین سطور الحقیقة المرة لما کان يجري هناك.
إذ أننا وبقراءة لتاریخ تشكل ما سمي فیما بعد بالولایات المتحدة الأمریکیة نجد أن بدایات تشکلها کان مع تدفق أعداد ضخمة من الأوروبیین إلیها، في بدایة القرن السابع عشر في الوقت الذي کان یقطن فیها ما یقارب أربع وعشرین ملیون نسمة من السکان الأصلیین وفي خلال ما یقارب ثلاثمائة عام کان القتل والتهجیر للسکان الأصلیین واستجلاب لسکان من أصل أفریقی للعمل في خدمة الأوروبیین وخاصة الإنکلیز، حتی بات للأفارقة أعداد هائلة لا یمکن تجاهل وجودها الاجتماعی والاقتصادی، وبدلاً من احتضان السود واستیعابهم ضمن النظام الجدید تم عزلهم واضطهادهم بقوانین تکرس لاستعبادهم والإتجار بهم ومعاملتهم کسکان من الدرجة الدنیا.
ولعل من أبرز ما أشار لهذا الإضطهاد والظلم المفرط ما جاء في العدید من الکتب التي تجرأت وکتبت عن هذا الواقع المؤلم الذي کان یعیشه السود، ککتاب الجذور لألیکس هالس وأبرز ما ورد فیه طرق التعذیب ومعاملة ذوات البشرة السمراء ککائنات بمستوی أقل من الحیوانات، لکن تطور المسار التاریخي باتجاه إلغاء العبودیة نستقرؤوه من أحداث الحرب الداخلیة التي وقعت بين ولايات شمالية رأسمالیة، متراجعة اقتصادیاً، لم تعد تستفید من السود في تجارتها وبین ولایات جنوبیة، تزدهر وتزداد نموا، استمرت في اعتمادها علی استعباد السود کوسیلة أساسیة للعمل في زراعة التبغ والذرة في أرضها الخصبة لتقویة اقتصادها، ما دعا الجنوبیین للسعی إلی الانفصال عن الشمال المنهك، وكان مجيء ابراهام لینکولن رئیسا لأمریکا في سبتمبر 1860 فرصة ذهبیة لبدء عملیات إعلان استقلال الولایات واحدة تلو الأخری بدءاً من ولایة کارولاینا الجنوبیة، لکن الحرب ظهرت وتفاقمت بسبب الصراع المتفاقم بین الطرفین علی المصالح الاقتصادیة وتدخلات الدول الأوروبیة فیه لصالح طرف دون آخر کفرنسا وبریطانیا اللتین وقفتا لجانب الجنوب.
وبذلك بات کل من الطرفین یسعی لرفع نقاط القوة عنده واستغلال نقاط الضعف عند الطرف الآخر وهنا ظهرت ورقة العبودیة موضع اسغلال من قبل الطرفین إذ اعتبر الجنوب استجلاب المزید من السود یعزز موقعه الاقتصادی في وجه الشمال الصناعي، الذي بدوره استغل نفس التحرر للأفارقة وظواهر الظلم علیهم للترویج لدعواته لإنهاء العبودیة، الأمر الذي سیدمر البناء الأساس لاقتصاد الجنوب المعتمد علی الزراعة، وفي الوقت الذي کان یحتاج فیه الجنوب للشمال لتصریف إنتاجه الزراعي، عمد الشمال لرفع الضرائب الجمرکیة علی بضائع الجنوب واستیراد ما یحتاجه من الدول الأوروبیة، ما أدخل الطرفین في حرب استمرت لأربع سنوات بین عامي 1861 و1865 انتهت بمقتل ما یزید عن ستمائة الف وفوز الشمال علی الجنوب، لکن فوزه ما کان لیمر دون ثمن فدعایات الشمال بالحریة للسود من العبویة کادت أن تدخله في حرب مع السود نفسهم فور انتهاء حربه مع الجنوب، لولا قرار الرئیس الأمریکی ابراهام لنکولن بإلغاء قوانین العبودیة.
ومن هنا وبالعودة لکثیر من خطابات لنکولن بین عامي 1861 و1862 ومن خلال لقاءاته الإعلامیة أیضا، نجده یؤکد علی ضرورة إلغاء العبودیة للسود مبررا ذلك بأنه أمر أساسي للحفاظ على تماسك الإتحاد بين الولايات الأمریكية. ومن خلال ما سردناه في الأعلى نجد أنه لم یکن مفر من إلغاء قوانین الرق كونها السبب الأساس الذي مكن العديد من الولايات من الإستقلال ما فتح باباً لحرب اقتصادية تدحرجت شيئا فشيئا لتتحول إلى حرب أهلية أودت بحيات الآلاف، ویلخص الأمر ما جاء في کتابات هاربت بتشتر ستو، صاحب کتاب کوخ العم توم، الذي أشار في کتاباته إلی أن أسباب إلغاء العبودية هي القضاء على الأهداف الإنفصالية وتجنب الإختلالات الإقتصادية بين الشمال والجنوب ووضع حد للحرب الأهلية بينهما.
وبذلك يتوضح أن لنكولن لم تكن أهدافه بتحرير السود إنسانية أو أخلاقية أو حتی نشراً لفكر أو ثقافة متحضرة بل في الحقيقة هي لواقع فرض نفسه, على عكس ما روجه الكثيرون من محبي التمجيد بأمریكا وتعظيم بعض رموزها في محاولة لتبييض التاريخ الأسود لمستوطنيها, ولعل الأمر ذاته يسري على كثير من دول الإستعمار في العالم والتي تحاول تلميع صورة حضاراتها التي بنتها على استعمار ونهب ثروات البلدان الأخرى, والملفت في الأمر أنك ستجدها حتى اليوم هي ذاتها ما زالت تتدخل في شؤون الآخرين وتحتل وتقتل وتنهب ثروات الغير دون أي رادع.