الوقت- ينظر العالم بقلقٍ لمسار الأحداث الدولية. فالضربة الأمريكية أعادت خلط الأوراق. لكن أحداً لم يخرج ليتحدث عن حقائق وأسرار ما يجري. فالجنون الأمريكي ليس بجديد. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا هذا التضخيم الإعلامي والسياسي الغربي للضربة الأمريكية؟ وكيف ساهم صراع الأقطاب في إقصاء توجهات دونالد ترامب داخل أمريكا؟ وكيف وصلت الأمور للإنقلاب الأمريكي على روسيا؟
الجنون الأمريكي ليس بجديد ولكن!
لم تكن حفلة الجنون العسكرية التي خاضتها واشنطن الأولى من نوعها. بل حدث أخطر منها. وهنا نُشير الى أنه في شهر أيلول من العام 2016، استهدفت الطائرات الأمريكية، موقع للجيش السوري في جبل الثردة قرب دير الزور. لكن هذا الإستهداف، لحقه رد فعل أمريكا بالإعتذار والتبرير بالخطأ. في حين كان الإطار الذي جاء فيه العدوان مختلف تماماً عما يجري اليوم. كما أن التعاطي الإعلامي الغربي حينها، لم يُخرِج الموضوع عن المُبررات السياسية التي حاكتها واشنطن والتي ادعت الخطأ.
أما اليوم، فإن الضربة التي وجهتها واشنطن لقاعدة الشعيرات الجوية، وبعيداً عن أثرها ونتائجها، يُشير المحللون العسكريون الى أنها ليس أخطر من الإستهداف الجوي الأمريكي عام 2016. في حين لحقها تصعيد إعلامي وسياسي. وهو ما يعني أن أهمية الحدث ليس فقط في حقيقته وواقعيته، بل في كيفية التعاطي معه إعلامياً وسياسياً. فلماذا قامت واشنطن بتضخيم إنجازها؟ وما هي الأسباب الحقيقية لهذا الجنون؟
عودة الى الوراء: صراع الأقطاب في أمريكا وجذور ذلك دولياً!
بعد توصيف الواقع الحالي بدقة، يجب فهم خفايا السلوك الدولي لأمريكا وكيفية تعاطيها مع الملفات إعلامياً وسياسياً. لكن ذلك يحتاج للتذكير بمسائل نُشير لها في التالي:
أولاً: منذ فشل أمريكا في العراق في العام 2013، انهارت حالة القطب الواحد الدولية. وهو ما خلَّف نتائج كارثية على المنطقة، وأحدث اضطراباً في السياسة الإقليمية لحلفاء واشنطن، بالإضافة الى صُنَّاع القرار الأمريكيين. وهنا لا نقول أن أمريكا كانت ناجحة في إدارتها للملفات. لكن الفراغ الذي أحدثه خروجها، أعاد خلط الأوراق سياسياً في المشهدين الإقليمي والدولي، وباتت الأمور بحاجة لعرَّاب!
ثانياً: هذا التحوَّل في السياسة الدولية لواشنطن ساهم في ارتفاع حدة الصراعات الأمريكية الداخلية بين الأقطاب المؤثرة في السياسية الدولية لأمريكا، وتحديداً بين النُخب الأمريكية المُخططة والمؤسسات العسكرية والأمنية، وجماعات اللوبي الصهيوني أو ما يُعرف بالدولة العميقة والتي لها إمتداد في كافة أنظمة ومؤسسات صناعة القرار الأميركي.
ثالثاً: أفرز هذا التحول، أحداث فضحت النظام الأمريكي السياسي المحلي والمشكلات الداخلية له. وبقي ذلك يتصاعد بشكل ملحوظ حتى تجلَّت الصورة الأوضح له في الإنتخابات الأمريكية الأخيرة. حين بدت الأمور المتعلقة بالنظام الأمريكي بأبشع صورها وتحديداً مع خروج الإتهامات بين المرشحين للرئاسة الى حالة الحديث عن العلاقة مع الأعداء!(روسيا).
أسرار أمريكية: كيف يمكن الربط بين هذه الصراعات والوضع الدولي اليوم؟
قد يظن البعض أو دونالد ترامب يُشكل مصدر القرار الأمريكي. لكن الحقيقة تقول أنه أضعف من أن يُقرر وحده، بل هو جزءٌ من منظومة يستطيع التأثير بها ويُمثِّل الصورة الظاهرة لها. وهنا نقول التالي:
أولاً: بقي دونالد ترامب ومنذ بداية العام الحالي، في موقع الرئيس المُدان داخلياً وغربياً حتى قيامه بالعمل العسكري الأخير. وهو ما أحدث صدمة في روسيا والعالم، نتيجة الغزل السياسي الذي طالما حاكه ترامب تجاه روسيا، حتى ظن البعض أنه وكيل روسيا في أمريكا. وهو ما دلَّت عليه مواقفه تجاه موسكو، وحالة التفاؤل التي عبَّرت عنها روسيا بعد انتخابه رئيساً.
ثانياً: بدأ الصراع الداخلي في أمريكا يأخذ مساره بعد وصول ترامب للبيت الأبيض، وذلك عبر تجريده من نقاط القوة لا سيما في مجلس الأمن القومي. حيث استقال مستشاره للأمن القومي "مايكل فالين" في شهر شباط وتم اتهام وزير عدله "جيف سيشانز" بتواصله مع السفير الروسي في أمريكا، ثم جرت إقالة "ستيف بانون" خلال الشهر الحالي. ليبقى ترامب مُجرداً من نقاط القوة ومحاطاً بأصحاب العقيدة التي طالما سعت واشنطن لترسيخها والتي تتعلق بالعداء لروسيا!
ثالثاً: خضع بعدها دونالد ترامب للواقع الطبيعي للسياسة الأمريكية ولم ينفعه خروجه عن المألوف. في حين كان لا بد من تأمين بروباغندا إعلامية تُساهم في دعم التغيُّر والتحول في سياسة أمريكا تجاه المنطقة والعالم. فكان العنوان الترويج لمجزرة خان شيخون، وأخذ خطوات إستباقية لأي تحقيق، وجعل ذلك عنوان لضربة محدودة ودقيقة غير مؤثرة في الصراع السوري على قدر تأثيرها في إعادة نسج المعادلات وتحديد الخطوات المستقبلية لكافة الأطراف. في حين يمكن اعتمادها كأساس لكل خيارات أمريكا السياسية أو العسكرية المقبلة!
رابعاً: بعد الخطوة العسكرية، والتي فهمتها كل من روسيا وإيران، أعادت أمريكا إحياء المسار الصحيح للعلاقة بين روسيا وأمريكا والتي سعت دوماً لترسيخها لدى الرأي العام العالمي. وأفهمت واشنطن من يعنيهم الأمر، أن روسيا لم ولن تكون يوماً شريكاً على حساب المصالح الأمريكية. وهدفت واشنطن من خلال ذلك، لطرح نفسها كطرفٍ قادرٍ على التأثير والتفرُّد. وهنا لا يجب إغفال أن الضربة صادفت انعقاد القمة الصينية الأمريكية وما يعنيه ذلك من دلالات.
إذن، في وقتٍ تخرج فيه التحليلات للتنبؤ بالآتي من أحداث، نقول أن ما يجري ليس مفصولاً عن الماضي. ومن لا يُجيد قراءة التاريخ لن يُتقن فهم الحاضر أو التخطيط للمستقبل. لم تخرج أمريكا عن مسارها الطبيعي في صناعة سياساتها الدولية. بل خرجت الأمور عن مسارها الإعلامي الذي صنعه وصول دونالد ترامب الى الرئاسة. فكان من الضروري إعادة الأمور لمسارها المُعتاد وعبر استخدام الأسلوب الأمريكي نفسه: صناعة الوهم. فاليوم، يُحكى عن أن الإستخبارات الإسرائيلية هي التي قامت بفبركة قصة خان شيخون لإيجاد ما يُنقذ الداخل الأمريكي من فضيحة تواصل الرئيس وأعوانه مع الكرملين. وهو ما تُجيد واشنطن استغلاله والترويج له. لتكون النتيجة اليوم، دونالد ترامب، ينقلب على نفسه، ويستسلم لأصحاب القرار في أمريكا وبالتالي جاء الإنقلاب الأمريكي على روسيا! هكذا أعادت أمريكا رسم صورتها الحقيقية!