الوقت- لطالما اعتمد الغرب في سياسة التراجع كما في سياسة الهجوم على طريق التمهيد الإعلامي الذي يليه تمهيد سياسي وما فعله المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا، ستيفان دي مستورا أخيراً، ليس عن هذا ببعيد. اذاً نطق دي مستورا معلناً بدأ التمهيد السياسي الذي سبقه تمهيد الإعلامي تجاه الموقف الغربي من الأزمة السورية، فالرئيس السوري أصبح اليوم جزءاً من الحل لا المشكلة.
لا نرى في تصريحات دي مستورا الأخيرة في ختام لقائه مع وزير الخارجية النمساوي سباستيان كورتس، إلاّ تتويجاً للحملة الدولية غير المباشرة لتبرير التراجع الدولي عن فكرة تنحي او اسقاط او حتى قتل الرئيس الأسد، والتي ظهر جزء كبير منها على صفحات الإعلام الأمريكي المقرّب من البيت الأبيض الذي لطالما إستخدمه ساسة أمريكا لتمرير رسائلهم سياسيةً كانت أم غيرها، بإختصار الموفد الدولي طبّق مقولة " للوصول إلى المقصد وبلوغ الغاية لا بد من تعبيد الطريق"، والغرب أدرك جيداً أنه بعد 5سنوات من دعم الإرهاب الممول من بعض مدعي العروبة والإسلام المتشدقين بحرصهم على الشعب السوري، لم يحصد إلا الخيبة والفشل لا بل إرتد الإرهاب إلى صانعيه، لذلك قرّرت القوى الغربية وليس لعيون الشعب السوري أو الرئيس الأسد إنما من أجل أمنها وحفظ مصالحها في الشرق الأوسط إلى القبول بالرئيس السوري وإعتباره جزءً من الحل لا المشكلة.
عندم يقول المبعوث الدولي الخاص الى سوريا، ستيفان دي مستورا (لا نعتقد بأنه يمكن ان يقول ما قاله دون تنسيق مسبق مع الادارة الامريكية )، إن «الاسد لا يزال رئيسا، وإنه جزء من الحل، وإن جزءا كبيرا من سوريا لا يزال تحت سيطرة الحكومة»، فهو بذلك يعبّر عن موقف أممي جديد تجاه سوريا خلافاً لما كان قائماً منذ جنيف1 إلى الأيام القليلة الماضية ، لا بل يشكل نقطة تحول رئيسية في الازمة السورية، ويعكس توجها غربيا جديداً أكده وزير الخارجية النمساوي عندما قال في اللقاء نفسه، “انه في ظل المعركة ضد تنظيم داعش الإرهابي قد يكون من الضروري القتال الى جانب دمشق، وان كان الاسد لن يصبح يوما صديقا او شريكا”.
لا ريب في ان الرئيس السوري بشار الأسد يكفيه في الوقت الراهن أن ينتقل الغربييون وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي بارك أوباما من جبهة العداء إلى جبهة الحياد، ولكن الملاحظ أن تصريحات الموفد الدولي، توجّت سلسلة من التصريحات الغربية، وعشرات المقالات في أبرز الصحف الاميركية، ومقابلتين مع الرئيس السوري في "فورين افيرز"، و "بي بي سي" التي لم تحصل لولا قرار سياسي كبير لأن التصريحات الأخيرة تعني بشكل أو بأخر أن أيام معظم المعارضة باتت معدودة لأن الغرب ترك للمعارضة السورية، المعتدلة وغير المعتدلة، على قارعة الطريق تتسول شيئاً من فُتات التسويات الكبرى.
ندرك جميعاً أنه لا اخلاق في السياسات الدولية وخاصةً لدى الإدارة الامريكية فالمصالح هي الأساس، ولا يثبت سوى الاقوياء، لذلك السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه التغييرات: كيف حدث هذا التغيّر الإستراتيجي؟ من السّبب في ذلك؟
لا يمكن حصر دواعي التغيّر في الموقف الغربي بسبب واحد، بل يقف وراء هذا التغيّر الذي جاء متأخراً وبعد أربع سنوات من القتل والدمار والتهجير أسباب عدة أبرزها:
داعش هزائم ووحيشية
لطالما عوّلت أمريكا على إستحدام الأدوات واصطناع الأسباب لتحقيق النتائج، وقد أضحى الشرق الأوسط عرضةً لتدخّل "المنقذ الأمريكي" كما يروج لنفسه بسبب قدرات تنظيم الداعش الإرهابي وسيطرته على ثلث العراق ونصف سوريا، لكن القدرات التي أثبتتها المقاومة الشعبية في سوريا والعراق والهزائم المتتالية التي تلقّاها التنظيم الإرهابي على يد قوات الحشد الشعبي، قطعت الطريق على الجانب الأمريكي واجبرته على التراجع والقيام بجردة جديدة من الحسابات. أيضاً، لا شك في أن وحشية تنظيم داعش الإرهابي وإرتداد الإرهاب إلى الغرب نفسه، ساهمت بشكل كبير في تغيّر الموقف الغربي تجاه سوريا والتي ندّعي أنه لولا الهمجيّة غير المسبوقة لهذا التنظيم الإرهابي وكشف عورته أمام شعوب أوروبا وأمريكا الشمالية من ناحية، وخروج هذا التنظيم من أيدي صانعية غربياً وداعميه شرق أوسطياً (بإستثناء تركيا التي تدعم داعش و تخشى مواجهتها لأسباب ندركها جميعاً) من ناحيةٍ أخرى لما إضطر الغرب إلى تغيير موقفه من النظام السوري وفي مقدّمته الرئيس الأسد، وهذا ما بشّرنا به الرئيس السوري منتصف العام الفائت عندما قال:"إن أمريكا والغرب بدأوا يرسلون إشارات تغيير بعدما صار الإرهاب في عقر دارهم".
معارضات لا معارضة
يمكن القول، بشكل عام، إن التنظيمات المعارضة في سوريا تنقسم إلى تيارين رئيسين: تيار ذو توجهات علمانية، وآخر ذو توجهات إسلامية، ولكن غياب الرؤية وإختلاف الأسلوب رغم وضوح الهدف(رحيل الأسد) عند هذه المعارضة التي ما لبثت أن تحولت إلى معارضات في الأشهر الاولى من ناحية والإقتتال الداخلي الذي راح ضحيته الألاف المسلحين من ناحية أخرى، فضلاً عن كونها بعيدةً من الشعب السوري وتزعّم أبرز فصائلها قيادات لا تحمل الجنسية السورية، لا بل لا تعرف اللغة العربية، ناهيك عن التنافس الذي لا يعرف الشرف وتلقي بعض فصائل هذه المعارضات الدعم المباشر والعلني من العدو الصهيوني، كل هذه الأسباب ساهمت في غياب معارضة واضحة الرؤية والهدف يمكن إعتمادها، ما خدم الرئيس الأسد أمام الشعب السوري نفسه وشعوب العالم التي لم تجد البديل.
الجيش والشعب يداً واحدة
ما لم يكن في حساب أعداء الشعب السوري وخلافاً لبقية دول المنطقة انطلاقاً من تونس مروراً بليبيا واليمن وصولاً إلى مصر، هو وقوف الجيش والشعب في سوريا يداً واحدة في وجه الإرهاب، لذلك بعد 5 سنوات من المواجهة بين محور المقاومة والمحور الغربي مدعوماً بما يسمى بمحور الإعتدال يأس الأخير من سوريا بدون الأسد. من ناحية أخرى بما أن القوى الغربية تفضّل الرئيس الأسد اذا ما كان داعش هو البديل(كما هو الواقع اليوم)، أدرك الغرب جيداً أنه لا حل في سوريا بلا بقاء الجيش السوري او بالأحرى الرضوخ لبقاء الجيش السوري، فلا بقاء للجيش والمؤسسات بلا بشار الأسد، لأنه ببساطة لن يتوافر البديل، فهذا الجيش الذي يقاتل ارهابا منذ 5سنوات تفوق على كل الجيوش الاخرى، في مواجهة حملة عسكرية ومالية واعلامية وارهابية شرسة ولعل الغرب يخشى من نيل الجيش السوري خبرة إضافية وهجوم الجيش السوري الأخير على الجبهة الجنوبية خير دليل على ذلك، خبرة قد تساهم في قلب الموازين مع الكيان الإسرائيلي لذلك حصل التغيير.
في السياق نفسه يعتبر الدعم الشعبي الذي يحظى به الرئيس الأسد وأثبتته الإنتخابات وأذعن له الغرب من أهم أسباب التحول الغربي الجديد تجاه سوريا، ففي2 شباط /فبراير الجاري، قدم ديمستورا مداخلة أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الاوروبي أكد فيها أنه "لا بد من دور للاسد في مستقبل سوريا يتفق عليه الشعب السوري لأن الاسد يمثل او يسيطر على 50 بالمئة من الشعب السوري".
في الخلاصة بعض النظر عن الأسباب التي تقف وراء هذ التغيّر الغربي، الشعب السوري بأمسّ الحاجة اليوم إلى الأمن والإستقرار الذي سلب منه، لذلك نأمل أن نشهد في العام الحالي تغيّراً جذرياً لمجريات الأزمة السورية، ولا نستبعد عودة سفراء الغرب إلى دمشق لأن أمريكا لن تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت لتغيير المعادلة في سوريا.