الوقت - إكتسبت العلاقات الأمريكية - السعودية أهمية خاصة طيلة العقود الماضية بسبب التأثير المباشر للإجراءات التي يتخذها كل من الطرفين تجاه الآخر، لاسيّما فيما يتعلق بالعواقب الإقتصادية والجيوسياسية لهذه الإجراءات ودورها في رسم شكل العلاقات المستقبلية بين الجانبين.
ويمكن تقسيم تاريخ العلاقات الأمريكية - السعودية إلى ثلاث مراحل أساسية:
الأولى، بدأت مع منح الشركات النفطية الأمريكية إمتيازات البحث والتنقيب عن النفط مقابل توفير الحماية للسعودية. وقد بدأت هذه المرحلة في عهد الملك عبد العزيز آل سعود، وبلغت ذروتها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وشهدت هذه العلاقات تطوراً نوعياً رغم الحرب النفطية بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول بين العرب والكيان الإسرائيلي عام 1973، وتأثيراتها على الإقتصاد الأمريكي.
وفي هذه المرحلة تعاونت الرياض وواشنطن بشكل وثيق من أجل محاربة الإتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان، ودعم نظام صدام في حربه ضد إيران في ثمانينات القرن الماضي. وبلغ التعاون ذروته أثناء غزو العراق للكويت عام 1990، لتنمو هذه العلاقات في شكل مطَّرد حتى عام 2000.
المرحلة الثانية بدأت مع رفض ولي العهد السعودي حينذاك عبد الله بن عبد العزيز زيارة واشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي جورج بوش-الإبن. لكن الخلافات برزت بشكل واضح بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 ومشاركة 15 سعودياً في الهجمات من أصل 19 من عناصر تنظيم"القاعدة".
أما المرحلة الثالثة، فبدأت مع الثورات الشعبية في العالم العربي أو ما عرف بإسم "الربيع العربي"؛ حيث إتهمت السعودية الإدارة الامريكية بعدم دعم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك أثناء ثورة يناير 2011 التي اطاحت به، وكان مبارك يعد من حلفاء الرياض الرئيسيين في المنطقة.
وفي الجانب الاقتصادي لعبت السعودية دوراً بارزاً في تحديد أسعار الطاقة في الأسواق العالمية باعتبارها البلد المنتج والمصدر الأكبر للنفط في العالم، وهو ما أثّر بشكل مباشر على الأوضاع الإقتصادية والسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط.
ورغم سعي منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لإتخاذ سياسات متوازنة لتحقيق الإستقرار في سوق النفط العالمي، إلاّ أن السعودية كانت تنتهج على الدوام سياسة خاصة خارج نطاق الأوبك لتحقيق مصالح أمريكا وحلفائها في هذا المجال. ونتيجة لهذه السياسة تحوّل النفط إلى سلاح سياسي بيد أمريكا لإبتزاز السعودية كي تتماشى دوماً مع إستراتيجتها الأمنية والعسكرية والإقتصادية في الشرق الأوسط وباقي مناطق العالم. وفي مقابل ذلك تعهدت واشنطن لآل سعود بإبقائهم في السلطة شريطة أن يلتزموا بأوامرها ويستجيبوا لطلباتها فيما يتعلق بتحديد أسعار النفط في أسواق الطاقة.
وكان النظام السعودي يُعد في السابق من الأنظمة المستقرة نسبياً من الناحيتين الأمنية والسياسية، إلاّ إنه خاطر بمستقبله بسبب دعمه للجماعات الإرهابية والتكفيرية المتطرفة من جانب، وتفككه من الداخل نتيجة الصراع على السلطة والتنافس على المناصب بين أقطاب الأسرة الحاكمة والذي تجلى بوضوح بعد موت الملك عبد الله بن عبد العزيز وتولي شقيقه الملك سلمان مقاليد الأمور مطلع عام 2015.
وتواجه السعودية في الوقت الحاضر عجزاً كبيراً في الميزانية يصل إلى نحو 100 مليار دولار بسبب إنخفاض أسعار النفط والتكاليف الباهظة لعدوانها المتواصل على اليمن منذ نحو 16 شهراً ودعمها اللامحدود للجماعات الإرهابية في العراق وسوريا ودول أخرى في المنطقة والعالم، بالإضافة إلى الفساد المالي والإقتصادي الذي ينخر بجسد الدولة نتيجة الإسراف والتبذير الشديدين من قبل الأسرة الحاكمة والمقربين منها في شتى المجالات.
وشهدت العلاقات الإقتصادية بين أمريكا والسعودية بروداً في السنوات القليلة الماضية خصوصاً بعد توجه الأخيرة نحو الصين لتنفيذ مشاريع إستثمارية مشتركة لاسيّما في مجالي التسليح والطاقة.
وهذا التغيير يجعلنا أمام حقيقة جديدة وهي أن السعودية ترغب في أن تكون لديها بدائل إقتصادية عن أمريكا كي تبتعد عن ضغوطاتها وإملاءاتها السياسية، ولكن هذا الأمر قد يعرضها لضغوط من نوع آخر، وقد تنتهي بتغيير نظامها خصوصاً وإن واشنطن كانت قد لوّحت بذلك مراراً خلال السنوات الماضية.
وبعد تدهور الوضع الإقتصادي في السعودية نتيجة العوامل الآنفة الذكر بدأ المراقبون يتساءلون عن مدى تأثير ذلك على العلاقة المستقبلية بين الرياض وواشنطن التي بُنيت أساساً على المنافع ولا شأن لها بالمبادئ والقيم الإخلاقية لا من قرب لا ومن بعيد.
الإجابة عن هذا التساؤل تكمن بمدى تأثير العوامل الأخرى وتحديداً الأمنية والسياسية في تكوين هذه العلاقة والتي يرى الكثيرون أنها لن تكون ثابتة ومستقرة طالما بقيت أمريكا تنظر إلى السعودية كلاعبٍ صغير يمكن إخراجه من المعادلة في أيّ وقت تشاء، كما يفعل المقامرون الذي يضحّون بأقرب أصدقائهم إذا إقتضى الأمر، وهذا هو ديدن من تسيّره المنافع دون القيم والمبادئ، وهذا مصير من يرتضي لنفسه أن يكون أداة طيّعة ورخيصة بيد المقامرين.
ولا ننسى أن نشير هنا إلى الدعوات الكثيرة التي يشهدها الداخل الأمريكي بين الحين والآخر للمطالبة بإعادة النظر في العلاقة مع السعودية، خصوصاً بعد الإتهامات التي وجهت لها بدعم الجماعات الإرهابية ونقض حقوق الإنسان والتسبب في تفريخ الإرهابيين لتنفيذ عمليات إجرامية في العديد من الدول الغربية والتي راح ضحيتها المئات من الأشخاص بين قتيل وجريج.
وتتزامن هذه المطالبات مع تحركات في الكونغرس الأمريكي لسن قانون يحظر بيع الأسلحة إلى الرياض، ما دفع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى التهديد، حسب صحيفة "نيويورك تايمز" بأن تبيع الحكومة السعودية أصولها الأمريكية البالغة 750 مليار دولار.
وتصاعدت الخلافات بين واشنطن والرياض بعد توقيع الإتفاق النووي بين طهران والمجموعة السداسية الدولية قبل نحو عام، لوجود قناعة لدى السعودية بأن الإتفاق قد ساهم بتعزيز مكانة إيران الإقليمية. كما تنظر الرياض بعين الريبة إلى إستراتيجية أوباما للإنسحاب من المنطقة نحو الصين والمحيط الهادئ.
من هنا يبدو الحديث عن القطيعة بين السعودية وأمريكا بعد تدني علاقاتهما في السنوات الأخيرة وتراجع إعتماد واشنطن على النفط السعودي أمر غير مستبعد، خصوصاً بعد إنفتاح الرياض على روسيا والصين وكندا وبريطانيا وفرنسا لشراء أسلحة وتنفيذ مشاريع إقتصادية بعشرات المليارات من الدولارات.
كما يبدو أن العلاقات السعودية الأمريكية بدأت تفقد خصوصيتها المتميزة بعد التصريحات التي أدلى بها الرئيس باراك أوباما مؤخراً في مقابلة مع مجلة "ذي أتلانتيك"، حيث وصف السعودية بمصدر التطرف والإرهاب.
وجوبهت هذه التصريحات برد من سفير السعودية السابق في واشنطن تركي الفيصل، مذكراً أوباما بالخدمات التي تقدمها الرياض لواشنطن، مثل شراء سندات الخزانة الأمريكية ذات الفوائد المنخفضة لدعم الإقتصاد الأمريكي. مؤكداً في الوقت نفسه بأن "الأيام الخوالي" مع أمريكا إنتهت بلا رجعة.