الوقت - يعتبر التفاوض وسيلة لتقريب وجهات النظر بين طرفين متخاصمين أو أكثر من أجل تسوية خلافاتهما أو تأكيد مواقفهما تجاه قضية معينة أو أكثر. وينتج عن هذا التفاوض في كثير من الأحيان التوصل إلى إتفاق ينهي هذه الخلافات أو يمهّد الأرضية على الأقل لحلّها في المستقبل.
هذا الأمر يسري أيضاً على النزاع العسكري والسياسي الشامل بين السعودية واليمن. فالرياض كانت إلى وقت قريب ترفض إجراء أيّ مفاوضات مع حركة أنصار الله في اليمن وتصرّ على إزاحتها عن مركز القرار في هذا البلد، إلاّ أنها رضخت مؤخراً لمبدأ التفاوض والجلوس إلى طاولة الحوار في الكويت بعد الإقتراح الذي تقدم به المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن "إسماعيل ولد شيخ أحمد" بهذا الخصوص. وأعلن المتحدث بإسم الجيش السعودي "اللواء أحمد عسيري" عن هذه الموافقة، معرباً عن إعتقاده بأن الحرب مع اليمن بدأت تقترب من نهايتها.
لكن رغم هذه الموافقة وإنطلاق المفاوضات في الكويت واصلت السعودية والدول الحليفة لها قصفها المكثف على اليمن، ومن هنا فهِم المراقبون بأن الرياض ليست بصدد إنهاء العدوان على هذا البلد، بل هي تفكر في الحقيقة بأسلوب آخر لإحداث تغيير في اليمن على غرار ما حصل في هذا البلد عام 2011 عندما أجهضت السعودية ثورة الشباب اليمني وأبقت نظام الرئيس السابق "علي عبد الله صالح" الذي غيّر مواقفه من الرياض فيما بعد وتحديداً عندما شنّت الأخيرة وبدعم من حلفائها العدوان على بلاده في 26 آذار / مارس 2015.
ونسيت السعودية أو بالأحرى تناست أن الاوضاع في اليمن قد تغيّرت بشكل كامل بعد تمكن حركة أنصار الله من مسك زمام الأمور في هذا البلد إثر هروب الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي إلى الرياض في 26 مارس 2015 بعد أن فرّ من صنعاء متجهاً إلى عدن في 21 فبراير من نفس العام.
وتتصور السعودية أن بإمكانها خداع حركة أنصار الله من خلال المفاوضات السياسية لتمهيد السبيل للقضاء عليها نهائياً في مراحل لاحقة، دون أن تدرك أن هذا الأمر لا يمكن تحققه على أرض الواقع لعدّة إعتبارات بينها أن أنصار الله إكتسبت خبرة سياسية وعسكرية تفوق تصور السعودية بمرات، بالإضافة إلى أن القوات اليمنية التي تقودها حركة أنصار الله تمكنت من تحقيق إنتصارات عسكرية باهرة على القوات السعودية، وهذه الإنتصارات هي التي أجبرت الرياض في الحقيقة على الرضوخ والقبول بالمفاوضات. وكان حرياً بالسلطات السعودية أن تدرك هذه الحقائق قبل أن تتوهم أن بمقدورها خداع أنصار الله عبر المفاوضات خصوصاً وأن الشعب اليمني قد أثبت حبّه وولاءه لهذه الحركة وتحمل المصاعب الجمّة التي نجمت عن العدوان السعودي على بلاده والحصار الشامل الذي فرض عليها جراء هذا العدوان.
وتوهمت السعودية كذلك بأن المفاوضات ستمهد لها الأرضية لفرض شروط على أنصار الله متجاهلة بأن هذا الأمر لا يمكن تحققه أيضاً لما عُرف عن قيادة أنصار الله وفي مقدمتها زعيم الحركة السيد عبد الملك الحوثي من حزم وصلابة وعمق في التفكير والطرح ومبدئية لا حدود لها تجاه مستقبل بلدهم إلى جانب التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب اليمني لضمان عزّته وكرامته وحريته بعيداً عن أيّ تسلط أجنبي.
وتطالب السعودية بتحويل أنصار الله إلى حركة سياسية لا علاقة لها بالقضايا الإجتماعية والإقتصادية والعسكرية والأمنية، وكأن السياسة وحدها بإمكانها أن تضمن حقوق اليمنيين وتدافع عن وحدة أراضيهم وسيادة بلادهم وتوفر لهم العيش الكريم دون الحاجة إلى جيش قوي وحدود آمنة وإقتصاد ناجح وظروف أمنية مستتبة.
ولو كانت حركة أنصار الله لم تقدم الآلاف من أعزّ شبابها ورجالها في سبيل الدفاع عن اليمن ومبادئه وقيمه وحقوقه لكان بالإمكان تصور مساومتها من أجل مكاسب سياسية أو ما شابه ذلك، لكن هذا الإحتمال ساقط من الإعتبار أيضاً لأن أنصار الله ليست حركة سياسية مجردة عن المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية والوطنية، بل أثبتت التجارب أن هذه الحركة غير مستعدة على الإطلاق للتفريط بأيّ من هذه القيم والمبادئ من أجل مكاسب سياسية أو مادية زائلة مقابل دماء وأرواح الآلاف من الشهداء والجرحى ومعاناة الأيتام والأرامل التي نجمت عن العدوان السعودي على اليمن الذي لم يترك هو وحلفاؤه جريمة صغيرة أو كبيرة إلاّ إرتكبوها من خلال قصفهم الوحشي لمنازل اليمنيين وتدمير البنى التحتية للبلد والذي شمل المستشفيات ومحطات الكهرباء والماء ومستودعات الأدوية والأغذية، ولم يبقِ هذا القصف شيئاً على الإطلاق إلاّ دمره، لكنه لم يتمكن من النيل من عزيمة وصلابة الشعب اليمني وقادته في الدفاع عن قيمهم ومبادئهم ووحدة أراضيهم وسيادة بلادهم تجاه هذا العدوان الغاشم.
وكانت السعودية تتصور أن عدوانها على اليمن لن يستمر أكثر من عشرة أيام لتوهمها بأن قدراتها العسكرية وقدرات حلفائها قادرة على هزيمة الشعب اليمني خلال هذه المدة القصيرة ولم تدرك أن هذا الشعب الضعيف من حيث الإمكانات والقوى ومن حيث العزيمة والصلابة والشجاعة لا يمكن أن يهزم مهما تكالبت عليه قوى الشر والعدوان لأنه أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا الصمود والإنتصار وتحقيق العزّة والكرامة أو القبول بالذل والهوان الذي لا يمكن تصوره أبداً بحق الشعب اليمني صاحب التاريخ العريق والحضارة الراسخة التي بناها بسواعد أبنائه وقدّم من أجلها الغالي والنفيس على مرِّ الزمن.
من خلال هذه المعطيات يمكن أن نستنتج أن حرب اليمن مع السعودية لا يمكن أن تنتهي ما لم ترضخ الأخيرة لحق هذا الشعب وتوقف العدوان الظالم عليه فوراً ودون أيّ شروط مسبقة، وتتعهد كذلك بدفع تعويضات لهذا البلد الذي تكبد الكثير من الأضرار والخسائر بسبب هذا العدوان كي تكون السعودية عبرة لكل من تسول له نفسه التفكير بشنّ عدوان على الآخرين، وهذه هي وظيفة المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية والقانونية والإنسانية من أجل حفظ الأمن والإستقرار في المنطقة والعالم، وعدم ترك الحبل على الغارب لمن هبّ ودبّ كي يسيء التصرف ويعبث بالأرواح والدماء البريئة لتحقيق نزوات شيطانية وأحلام مريضة على حساب شعب لا يريد سوى العيش بعزّة وكرامة بعيداً عن أيّ هيمنة أو تدخل أجنبي.