الوقت- يترافق الحديث عن تعامل الغرب مع الإرهاب وتعامل الشارعين الغربي والعربي مع تفاعلات عاطفية وانفعالية تعكس منظومة ثقافة وقيم، تخرجها الأزمات عادة في مثل الأحداث الدرامية التي تمثلها حوادث القتل والعنف والإرهاب.
هناك من قالوا في وصف ما تعرّضت له باريس من هجوم إرهابي «دواعش باريس يتقاتلون»، وانطلقوا من طبيعة الصحيفة المستهدفة وطبيعة مقالات كتابها التي تتسم بالعنصرية والعدائية والتحريض على التطهير العرقي بحق العرب والمسلمين ومقابلهم من قذفتهم هذه الثقافة الإقصائية والعنصرية من مسلمي فرنسا وأوروبا إلى الفكر المتطرف واعتناقهم الإرهاب، وهم ليسوا كما صوّرتهم الديبلوماسية الفرنسية والغربية مجرّد مساندين لثورة رأوها مظلومة في سورية، بل ثورتهم الفعلية جاءت رداً على عنصرية يتعرّضون لها في فرنسا، وبعدما تدرّبوا وتمرّنوا على القتل المحترف برعاية حكومتهم في مهمة ارتضوها موقتاً في سورية، عادوا إلى المهمة الأصلية وهي «تأديب من يجب تأديبه» في عرفهم… وهذه هي حربهم الحقيقية التي لن تتوقف، والحرب ستكون هناك بين إرهابيْن، إرهاب يستجمع السكان البيض، وإرهاب سينظم السمر الغاضبين، وستكون شوارع باريس مسرح حرب أهلية، أرادها هنري برنار ليفي لمئة عام بين السنة والشيعة عبر قيادة وإلهام واستلهام «الربيع العربي»، وإذ هي تنتقل إلى حيث المصنع الأصلي لغرابة العيش المشترك والاعتراف العميق بالتشارك في الوطن والدولة والمواطنة بين أبناء ديانات مختلفة وألوان بشرات مختلفة، وهو عيش اعتاد عليه سكان شرق المتوسط الأصليون وتشكلت منه هويتهم، ولا يزال غريباً على الغرب، على رغم عراقة اعتناقه العلمانية وإعلائه شأن دولة القانون، ولا يشبه الغرب في هذا الاستغراب إلا دول الشرق الأحادية اللون الديني أو التي عانت من استعمار بلون ديني كحال السعودية في ضفة والجزائر في ضفة مقابلة، وهذا ما يفسّر انتماء أغلب الانتحاريين إلى مسلمي أوروبا والسعودية والجزائر ومثلها بلاد المغرب العربي عموماً.
هناك من قالوا إنّ «طابخ السم آكله»، وهم يشيرون إلى الدور الذي لعبته حكومات الغرب بخبث في استجلاب الإرهاب إلى سورية أملاً بالتخلص من نظام الحكم فيها وإبقاء هذا الإرهاب تحت السيطرة، وكانت النتيجة فشلاً مريعاً، فلم يسقط النظام في سورية، وخرج الإرهاب من تحت السيطرة، ومعادلة «طابخ السم آكله» هنا ليست معادلة تقنية، أيّ أنّ هذا الوحش الذي جلبتموه لقتل سواكم يرتدّ لقتلكم وحسب، بل هي معادلة أبعد مدى في فهم الكيفية التي يتقاطر وينتظم فيها هؤلاء الإرهابيون الذين غابت معادلاتهم عن عقول من قرّروا استخدامهم، ومن المفيد الاقتباس من كلام للأمير مقرن بن عبد العزيز في وصف هؤلاء، بقوله: ليس مصدر الخطر هو ما نسمّيه بالخلايا النائمة، التي يقرّر قادة التنظيمات الإرهابية دعوتها في توقيت محدّد للتحرك والصحوة والاستيقاظ، بل الخلايا الخامدة التي تكون عبارة عن مجموعات بالآلاف يرتادون المساجد ويتبنون الفكر التكفيري كموضة ثقافية، لكنهم يائسون من جدوى السياسة، ومثلهم الذين كانت لهم تجارب سابقة وبلغوا سنّ الكهولة وقد وصلوا إلى القرف من الانشقاقات وتنازعات السلطة والمال في التنظيمات بعدما عاشوها من عفن الداخل وليس من إبهار الخارج، وتأتي حالة النهوض الدموية التي يسجلها عمل كحادثة الحادي عشر من أيلول فتستنهض وتشحذ بالطاقة هذه الخلايا الخامدة وتقذفها في لجة الفعل، ويتبرّع الشيب لقيادة الشبان، وتنشأ قطعان من الجدي تقودها ماعز بتسلق الأشجار وكيفية قضم الأشواك، لم يكن يحسب لها أهل التنظيم الصغير حساباً، ليجدوا أنفسهم فجأة أمام طوفان من المتطوّعين يمنحونهم فرصة الحلم الذي كان ممنوعاً، وهنا دور طابخ السم، بمنح هذا الحلم فرصة إحياء الخلايا الخامدة وتنشيطها، وهذا ما يؤكده انتماء الذين نفذوا هجمات باريس لجيل «القاعدة» المتقاعد الذي عاد إلى العمل بوهج ما فعله ظهور «داعش» بهم وبالمئات والآلاف مثلهم من المتقاعدين والمتطوّعين الجدد، وليست القضية أنهم كانوا موجودين ومنتظمين ومصمّمين على الفعل واستعملهم، بل أنهم كانوا مجرّد أصحاب موضة ثقافية في التديّن، وصاروا برعاية رسمية مقاتلين محترفين، وها هم اليوم يرسمون طريق حروبهم بعيداً عمّا رسمه من استنهضهم وقذف بهم في لجة التحوّل من هواة موضة لحى وثقافة إلى محترفين في كيفية حز الرؤوس وأكل الأكباد.
مثقفون مسلمون عاشوا في الغرب وباريس خرجوا يستنكرون المنطقين والمعادلتين، ورأوا فيهما تشجيعاً على الإرهاب وشماتة وتبريراً للفعل المشين، وتعبيراً عن عقدة نقص لا تريد الاعتراف بأنّ المشكلة تكمن «فينا نحن العرب والمسلمين»، فليس كلّ التخلف مؤامرة، وليس الإرهاب مجرّد استجلاب بل هو جزء أصيل من هوية متخلفة للدين تحتاج شجاعة الاعتراف بانتمائها إلى هويتنا الثقافية التي آن أوان الثورة عليها، الثورة الثقافية في الدين وعلى الدين وحول الدين، حتى تستقيم المعايير الإنسانية التي تنتهك باسمه، ونصفّق لها كحمقى، ونخترع لها التبريرات.
في كلّ تفكير وفقاً لابن حنيفة حق فيه بعض من الباطل وباطل فيه بعض من الحق، لكن في السياسة للكلام وظيفة، وموقع وتوقيت، فلأيّ من التفكيرين الأرجحية في اللحظة والسياق الراهنين، للدعوة إلى المراجعة الإسلامية الفكرية والثورة الثقافية، أم لدعوة الغرب إلى التأمل والتقييم وإعادة النظر في السياسات العرجاء؟
ما لا يجوز أن يغيب عن دعاة الثورة الثقافية في الدين، أنّ الثورة كفعل تقدّم إلى الأمام هي في حالة الإسلام دعوة للعودة إلى الوراء، فما نحتاجه هو أن نعود إلى قرن نحو الخلف حيث كان فقهاء من أمثال محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين اسد ابادي يتقدّمون المشهد الفكري والثقافي والسياسي، دعاة الدولة المدنية، الذين اختفوا بقدرة قادر ليحلّ مكانهم محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب لنصف قرن، ويتلوهم في النصف الثاني أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي، ولنكتشف أنّ النصف الأول كان صناعة بريطانية والنصف الثاني كان صناعة أميركية، النصف الأول من ثقافتنا الإسلامية صنعه البريطانيون لحماية آبار النفط وقناة السويس، والنصف الثاني صنعه الأميركيون لقتال الشيوعية لربع قرن، وتالياً قتال الشيعة للربع الثاني، على الأقلّ هذا ما تقوله وثائق الخارجية البريطانية ومن بعدها وثائق الاستخبارات الأميركية، بدءاً من مذكرات زبيغينيو بريجنسكي عن كيفية ولادة تنظيم «القاعدة» وظاهرة المجاهدين في أفغانستان بالتنسيق مع القائم بالأعمال السعودي في واشنطن آنذاك الأمير بندر بن سلطان.
ما لا يجوز أن يغيب أيضاً عن دعاة الثورة الثقافية في الإسلام، وهي حاجة بالمناسبة للعودة قرن إلى الوراء، هو أنّ الدعوة إلى دولة إسلامية لم يعرفها الفقهاء المسلمون قبل ولادة الدولة اليهودية في فلسطين، وأنّ موروثات الاحتلال الفرنسي للجزائر وبلاد المغرب لا تزال جزءاً من الذاكرة المستورة في حروب شوارع باريس، وما رافقها من بعد ديني غير خاف على كلّ من تابع ثقافة نزع الحجاب بحراب البنادق للمسلمات في شوارع الجزائر، باعتبار مهمة الاستعمار التنوير حتى صار الحجاب رمزاً من رموز المقاومة للاحتلال، ومن اللافت أنه بعد أكثر من قرن لا يزال الرؤساء المتعاقبون على الحكم في فرنسا يرفضون الاعتذار عن الجرائم الإرهابية الموصوفة التي تفوح منها رائحة العنصرية في حرب الجزائر، بما فيها تجريب الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية بالمدنيين ونزلاء السجون، على رغم أنّ كلّ من تناوبوا على الرئاسة الجزائرية من أصدقاء فرنسا وخصومها كانوا يواظبون على تجديد الدعوة لمثل هذا الاعتذار.
من المفيد أن ينتبه دعاة الثورة الثقافية إلى أنها لا تكون على ضفة واحدة إلا عندما تكون تبريراً متسرّعاً، لضفة مدانة لتبرئتها من جرائمها، فالغرب الذي ينزف مواطنوه تحت سكين الإرهاب الذي يرفع شعار إقامة دولة الخلافة الدينية، يصرّ على مواجهته بوصفة التحالف مع دولة خلافة أخرى هي تركيا الإخوانية العثمانية، ودولة ولاية إلهية بلا دستور إلا هبة الوهابية هي السعودية، ودولة نقاء وتطهير عرقي هي «إسرائيل» اليهودية، ولا يقاتل إلا الدولة العلمانية الوحيدة في المنطقة التي تمثلها سورية، ويواصل الإصرار على زعم خوض الحرب على الإرهاب من دون أن يستدعي منه ذلك التفكير ولو من باب الواقعية في التدقيق بفرضية القدرة على خوض حربين عالميتين على سورية والإرهاب في آن واحد، ولا يرفّ لهذا الغرب جفن وهو يرى الهجمات على المساجد والتعبئة العنصرية ضدّ المسلمين في مدنه وعواصمه، وملاحقة المهاجرين بالسباب والشتائم والزجاجات الفارغة، ويستنفر لحرب صليبية جديدة عملت لها الحركة الصهيونية اليهودية منذ زمان طويل وأنتجت لحسابها صهيونية مسيحية وصهيونية إسلامية.
هل يحتاج هذا الغرب بعد كلّ ذلك إلى من يربّت على كتفيه أم إلى من يشدّه بشعره؟
ثورة ثقافية مطلوبة نعم، لكن مدخلها أن يقتنع الغرب بأنّ أفضل ما لديه ويرفض تصديره إلينا وربما يعيد النظر في التمسك فيه، هي قيمة العلمنة والدولة المدنية، والمطلوب رفعها بدلاً من نفاق الديمقراطية إلى مستوى القيم الأخلاقية المحدّدة للتحالفات والخصومات، فيصير مقياس الحكم على السياسات «الإسرائيلية» والتركية والسعودية والسورية وتحديد من يقف في معسكر العداوة ومن يقف في معسكر الحلفاء هو مدى مطابقة السياسات لمعايير العلمنة.
حتى ذلك الحين سيبقى العالم يتخبّط بدمائه، والإرهاب يستسقي نظيره، ولحس المبرد لعبة نزيف دائم.
ناصر قنديل