الوقت - لأسابيع متتالية، استولى المحتجون على ساحات تل أبيب وسائر مدن الأراضي المحتلة، مستميتين في محاولة لإرغام حكومة نتنياهو على الإذعان لوقف إطلاق النار مع حماس وتحرير أسراهم القابعين في قبضة المقاومة، وقد انضمت قوى الأمن والجيش تباعاً إلى هذا التيار الاحتجاجي، مُصعِّدةً من وطأة الضغط على حكومة نتنياهو من خلال توقيع عرائض تنادي بإيقاف رحى الحرب الطاحنة.
في غمرة هذه الأحداث المتلاطمة، قد توحي تلك المظاهرات المناهضة للحرب بانطباع زائف للرأي العام العالمي، بأن المجتمع الصهيوني منشق حول جوهر الحرب ذاتها أو نتائجها المروعة على أبناء غزة الصامدين - وكأن ذلك نابع من باعث أخلاقي سامٍ أو دوافع إنسانية نبيلة تتوق للسلام!
بلغت هذه الشبهة مبلغاً دفع ببعض أصحاب النهج المهادن كمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، إلى الاعتقاد بأنه لو أطلقت حماس سراح الأسرى الصهاينة دون اشتراط الرضوخ لمطالب المقاومة، لتوقفت جرائم الكيان الصهيوني وأنهى جيشه احتلال غزة المنكوبة.
وعليه، يتحتم علينا طرح هذا السؤال الجوهري: لو لم يمتلك الفلسطينيون هذه الورقة الرابحة (الأسرى)، ولم يتمكنوا من إيقاع الخسائر الفادحة في صفوف العسكريين الصهاينة، فكيف كان سيتجلى موقف الشارع الإسرائيلي؟ وهل كان الصهاينة سيبادرون إلى تنظيم احتجاجات صاخبة لوقف آلة الحرب وجرائمها البشعة؟
ما الذي تتصدى له هذه الاحتجاجات في حقيقة الأمر؟
للإجابة عن السؤال المطروح والشبهة التي يثيرها منتقدو المقاومة في إدارة ملف الأسرى الصهاينة، يتعين علينا أولاً شرح طبيعة الاحتجاجات المناهضة للحكومة والحرب في الأراضي المحتلة، أهي من ذات جوهر الاحتجاجات الإنسانية النبيلة التي اجتاحت أرجاء العالم ضد فظائع الصهاينة المدعومة من الإدارة الأمريكية خلال الأشهر المنصرمة؟
في معرض الإجابة عن هذا التساؤل، حذّر “ميراو زونسزين”، المحلل البارز للشؤون الإسرائيلية في مجموعة الأزمات الدولية، في أبريل 2024 عبر صفحات مجلة “فورين بوليسي” من أن الاحتجاجات الإسرائيلية الأخيرة، قد استُغلت بأسلوب مخادع لتلميع صورة المجتمع الإسرائيلي وتصويره كمجتمع “إنساني” يأبى الظلم.
ويُفصح في تحليله أن آلاف الإسرائيليين الذين تدفقوا إلى الشوارع، لا يعترضون في جوهر الأمر على الحرب والفتك الوحشي بالنساء والأطفال في غزة، ولا على القيود الصارمة المفروضة على المساعدات الإنسانية، وبالقطع لا يطالب أي منهم بإنهاء خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال العسكري الغاشم، بل ينصب اهتمامهم الأساسي على رفض نتنياهو التنحي عن سدة الحكم وعرقلته المتعمدة لاتفاق تحرير الرهائن.
في واقع الأمر، إن تسليط الأضواء على تقصير نتنياهو، الذي يأبى الاستقالة رغم مثوله أمام القضاء بتهم الفساد وجرّه "إسرائيل" إلى هاوية أخطر أزمة في العقود السبعة المنصرمة، يحجب حقيقةً ساطعةً مفادها بأن المجتمع الصهيوني لا يزال متماهياً تماماً مع نتنياهو في سياساته العدائية تجاه الفلسطينيين، ففي جميع استطلاعات الرأي، أيدت الأغلبية الساحقة منهم إطلاق العملية العسكرية في غزة وهدف الحكومة لاستئصال حماس، حتى لو كان ذلك على حساب إزهاق أرواح المدنيين العزل.
ووفقاً لزونسزين، حتى لو اعتلى “بيني غانتس”، وزير الدفاع السابق ورئيس أركان الجيش الذي يحظى بشعبية طاغية في استطلاعات الرأي، سدة الحكم محل نتنياهو، فمن المستبعد أن تتباين سياسات حكومته تجاه الفلسطينيين تبايناً جوهرياً عن نهج نتنياهو العدواني.
في المقابل، تتمحور جوهر الاحتجاجات في الصحوة العالمية ضد الكيان الصهيوني، حول إدانة أصل الحرب غير المتكافئة والمنافية للإنسانية التي شنها الصهاينة ضد أهل غزة المحاصرين، والتي تمردوا فيها على القوانين الدولية مرتكبين شتى صنوف الجرائم من إزهاق أرواح النساء والأطفال، إلى دكّ المستشفيات والمدارس والتسبب في المجاعة المروعة، هذه الاحتجاجات تعبّر في لبها عن نفاد صبر البشرية جمعاء من سبعين عاماً من الاحتلال والجرائم التي يتواطأ فيها جميع الصهاينة، عسكريين ومدنيين، نساءً ورجالاً، مستوطنين وسكان العاصمة.
تقديس القوة في الحمض النووي للصهيونية
وبعيداً عن تفكيك مضمون الاحتجاجات الشعبية، يكشف المحللون من خلال سبر أغوار الخصائص الاجتماعية والقيم الجمعية للمجتمع الصهيوني، عن حقيقة راسخة مفادها بأن الصهاينة لا يفقهون لغة سوى لغة البطش والجبروت في تعاملهم مع الآخرين.
في هذا السياق، يصرح دونيل هارتمان، رئيس معهد شالوم هارتمان ومقدم برنامج “نحو الفردوس” (أحد أشهر البودكاست اليهودية في أمريكا الشمالية): “الصهيونية والدولة اليهودية تفتقران إلى احتضان وتقديس القوة، فمن دون القوة الغاشمة، لم تكن إسرائيل لترى النور أبداً، ولم تكن لتصمد في الشرق الأوسط المضطرم بنيران الصراع”.
ويضيف في استطراده: “في السنوات الأولى، كانت قوة إسرائيل محدودةً، لكن بعد الانتصار في حرب 1967، أضحت القوة - كجالوت - جزءاً لا ينفصم من نسيج الواقع الإسرائيلي”.
ووفقاً لهارتمان، أزكت هذه القوة شعلةً جديدةً من الفخر والهوية اليهودية، ومنحت الصهاينة إحساساً بأنهم لاعب محوري على مسرح الأحداث العالمية.
في عصرنا الراهن، برزت في الأراضي المحتلة قوى جديدة تمجّد القوة بأسلوب غير مسبوق استناداً إلى فصول وآيات من الكتاب المقدس، وتعتبر المبادئ الأخلاقية المفروضة على الجيش الإسرائيلي وصمة ضعف ونذير هزيمة، فهم يرون في جبروت "إسرائيل" تجلياً لمشيئة الرب.
إن صعود “إيتمار بن غفير”، السياسي اليميني المتطرف، وحزبه “عوتسماه يهوديت” (الذي يعني حرفياً “القوة اليهودية”) إلى هرم السلطة، يُعدّ شاهداً دامغاً على تنامي “تقديس القوة” في أوصال المجتمع الصهيوني، وكما يشي اسم هذا الحزب، يعتبر أعضاؤه القوة غايةً مقدسةً، ولا يتورعون عن ممارستها بأشدّ صور القسوة والبطش.
أعلن ابن غفير بزهو واعتداد ليلة الانتخابات أن فوزه سيعيد اليهود إلى مكانتهم “المشروعة” كأسياد لهذه الأرض المحتلة، فمن منظوره ومنظور أنصاره، الهيمنة على الآخرين - سواء الفلسطينيين أو سائر الشعوب العربية وغير العربية - حق قومي مقدس لا مراء فيه.
في رؤية المجتمع الصهيوني، تسود أسطورة مفادها بأن الرب هو من يخوض غمار الحرب نيابةً عنهم، وبالتالي تُضفى المشروعية على كل هذه الحروب وأعمال الإبادة، ويعتقد عدد متعاظم من الإسرائيليين أن قوة الدولة “منحة إلهية”، ويصنفون أعداء "إسرائيل" في خانة أعداء الرب.
ليس من قبيل المصادفة أن يتحالف حزب “عوتسماه يهوديت” مع الحزب القومي الديني ويخوضا غمار الانتخابات بقائمة موحدة، ووفقاً لرئيس معهد “شالوم هارتمان”، خلقت هذه العقلية المتطرفة مناخاً لا تُعترف فيه البتة بحقوق “أعداء الرب”.
لغة القوة.. اللغة الوحيدة التي تخترق وعي الصهاينة
في عام 2015، كشف استطلاع نشرته المجلة الإسرائيلية “+972” تحت عنوان “الإسرائيليون لا يفقهون سوى لغة القوة”، أنه منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، أدلى الصهاينة بأصواتهم على الدوام لمصلحة حكومات يمينية متطرفة.
والإقرار الأشدّ دلالةً في وسائل الإعلام الصهيونية، كان أن هذا الكيان لم يرضخ للمفاوضات أو التسوية إلا في أعقاب الحروب والهزائم:
• أفضت حرب يوم كيبور (1973) إلى مفاوضات كامب ديفيد (1977)؛ وتوجت في نهاية المطاف بمعاهدة السلام مع مصر.
• أقنعت الانتفاضة الأولى إسحاق رابين بأن الاحتلال لا بد أن يؤول إلى زوال، ما مهّد الطريق لاتفاقية أوسلو.
• أجبرت الانتفاضة الثانية الكيان الصهيوني على الانسحاب من قطاع غزة.
وفي دراسة مستفيضة عن الرأي العام إبان الانتفاضة الثانية، أماط “خليل شقاقي” (الخبير الفلسطيني) و"يعقوب شامير" (الباحث الإسرائيلي) اللثام عن حقيقة أنه في ذروة المواجهات، تصاعدت المطالبات الشعبية بالانسحاب من المستوطنات، وجاءت خطة “أرييل شارون” للانسحاب من غزة في أعقاب الانتفاضة المباركة.
خاتمة القول
تكشف وقائع التاريخ أن شريحةً واسعةً من المجتمع الصهيوني تنزع نحو العنف والاستعلاء، ولا تدرك إلا منطق القوة، فلولا وجود الأسرى الصهاينة في قبضة المقاومة، لما ظهرت الاحتجاجات المناهضة للحكومة المطالبة بوقف آلة الحرب الجهنمية، وعليه، يجب ألا نستسلم لقراءة إنسانية مغلوطة لهذه الاحتجاجات، ولا نسمح بتبييض صفحة الصهاينة المجرمين الملطخة بدماء الأبرياء.