الوقت - لم يدم الهدوء في العلاقات الجزائرية الفرنسية طويلاً، حتى عاد التوتر ليلقي بظلاله على المشهد الدبلوماسي بين البلدين، ويُشعل أزمة جديدة، هي في الحقيقة امتداد لتراكمات قديمة متجددة، تطفو إلى السطح كلما حاول الطرفان ترميم ما انكسر في جسور الثقة، فما إن بدأت بوادر الانفراج تلوح في الأفق، حتى جاءت التطورات الأخيرة لتعيد العلاقات إلى مربع التصعيد والتوجس المتبادل.
وفي خطوة وصفها كثيرون بأنها تمثل منعطفًا خطيرًا في العلاقات بين البلدين، قررت الجزائر طرد 12 موظفًا تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية، منحتهم مهلة لا تتجاوز 48 ساعة لمغادرة أراضيها، وذلك رداً على اعتقال موظف قنصلي جزائري في باريس، اعتقال اعتبرته الجزائر "استفزازيًا ومهينًا"، ويمس بشكل صارخ أعراف العمل الدبلوماسي، ولم تنتظر فرنسا كثيرًا، إذ ردت بسرعة بطرد 12 موظفًا من الشبكة القنصلية والدبلوماسية الجزائرية، إلى جانب استدعاء سفيرها في الجزائر للتشاور، في موقف يعكس حجم الاحتقان الدبلوماسي بين الجانبين.
بيانات متبادلة.. وخطابات لا تخفي التوتر
لم تتوقف الأزمة عند الإجراءات، بل امتدت إلى الخطاب السياسي، حيث حمّل قصر الإليزيه الجزائر مسؤولية "تدهور كبير" في العلاقات، معبرًا عن "استيائه العميق" من الخطوة الجزائرية التي جاءت رغم مكالمة هاتفية قبل أسبوعين فقط جمعت الرئيسين إيمانويل ماكرون وعبد المجيد تبون، والتي كان يُفترض أن تفتح صفحة جديدة من التعاون، وفي المقابل، أكدت الجزائر أن اعتقال موظفها القنصلي تم في "تجاهل تام" للحصانة الدبلوماسية، واصفة ما جرى بأنه "انتهاك صارخ" للاتفاقيات الدولية، وتحديدًا اتفاقية فيينا.
أزمة تتعمق خلفها قضية أمير دي زاد
في خلفية هذا التصعيد، تبرز قضية المعارض الجزائري أمير بوخرص، المعروف بلقب "أمير دي زاد"، والذي اختفى على الأراضي الفرنسية في أبريل/نيسان 2024، وتشير التحقيقات الفرنسية إلى تورط موظف قنصلي جزائري وثلاثة آخرين في عملية الاختطاف، ما دفع القضاء الفرنسي إلى فتح تحقيق رسمي، الجزائر من جانبها ترى في هذه القضية توظيفًا سياسيًا، بل تتهم جهات فرنسية، وعلى رأسها وزير الداخلية برونو ريتايو، باستخدام الملف كورقة للضغط وتوجيه السياسة الفرنسية تجاه الجزائر.
أزمة ليست وليدة اللحظة
من يتتبع مسار العلاقات الجزائرية الفرنسية خلال الأشهر الماضية، يلاحظ بوضوح أن الأزمة الراهنة ليست حدثًا عابرًا، بل فصلاً جديداً في مسلسل من التوترات الممتدة، فقد سبق أن انسحبت الجزائر من التعاون الأمني والهجرة بعد تصريحات ماكرون حول الصحراء الغربية، ثم توترت العلاقات مجددًا بسبب توقيف الكاتب بوعلام صنصال، ووصل الأمر إلى سحب الجزائر سفيرها من باريس.
وكل مرة، تتجه الأنظار نحو إمكانية "التطبيع الدبلوماسي"، لكن ما يلبث أن تظهر قضية جديدة تُعيد الأمور إلى نقطة البداية، ويكاد هذا النمط من العلاقات المتذبذبة يصبح النمط السائد، وخاصة في ظل التداخل الكبير بين الملفات السياسية، الأمنية، التاريخية والثقافية.
مواقف متباينة وتصريحات لافتة
وزير الداخلية الفرنسي ريتايو، أحد أبرز الشخصيات المثيرة للجدل في هذه الأزمة، صرح مؤخرًا بأن "فرنسا ليست ملعبًا للأجهزة الجزائرية"، في إشارة واضحة إلى اتهامات باريس للجزائر باستخدام البعثات الدبلوماسية في أنشطة غير قانونية، وفي المقابل، ترى الجزائر أن ريتايو نفسه "لا يرغب في عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي"، وأنه يمثل تيارًا يمينيًا يسعى إلى تسميم العلاقات الثنائية عبر توظيف ملفات الهجرة والأمن.
أما وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، فقد حاول التخفيف من حدة الأزمة، مؤكدًا أن "الحوار لا يزال ممكنًا، لكنه لا يمكن أن يكون في اتجاه واحد"، في دعوة مبطنة للجزائر بالتراجع عن قرار الطرد.
نقطة اللاعودة؟
يرى المحللون أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا دخلت مرحلة أكثر تعقيدًا، حيث لم تعد الأزمات تُحل بالبيانات أو المكالمات، بل أصبحت تتطلب حوارًا جادًا على أعلى مستوى، ويؤكد الخبير محمد شريف ضروي أن ما حدث يمثل صدامًا مؤسساتيًا لم يعد من الممكن تجاوزه إلا بلقاء مباشر بين الرئيسين، يُمهّد لإعادة صياغة العلاقة على أسس جديدة.
من جانبه، يرى المحلل السياسي حكيم بوغرارة أن "المعارضة المفترضة" التي تمثلها شخصية مثل أمير دي زاد هي مجرد أداة تستخدمها بعض الجهات الفرنسية، وخصوصًا اليمين المتطرف، في الضغط على الجزائر وتوظيف الأزمة في الصراع السياسي الداخلي بفرنسا.
مهما قيل عن تبادل الاتهامات والردود الدبلوماسية، فإن ما يحدث اليوم بين الجزائر وباريس يعكس عمق الأزمة التاريخية التي لم تندمل جراحها، سواء بسبب الإرث الاستعماري أو التناقض في المصالح أو الاختلاف في الرؤى السياسية.
وفي حين يصرّ كل طرف على حماية سيادته والرد بالمثل، يبقى المواطن العادي على ضفتي المتوسط هو الخاسر الأكبر، في ظل شلل التعاون في ملفات مصيرية مثل الهجرة، الأمن، والاقتصاد.
ويُطرح السؤال الجوهري الآن: هل الأزمة الحالية هي مجرد حلقة جديدة في سلسلة أزمات قابلة للاحتواء، أم إنها مقدمة لانفصال حقيقي طويل الأمد بين بلدين ربطتهما الجغرافيا والتاريخ والدم؟
الجواب، كما يرى بعض المحللين، سيُحسم فقط عندما يتحدث القادة لا من منابر السياسة، بل من طاولة حوار صريح وجاد يعيد ترتيب الأولويات، ويمنح شعبي البلدين مستقبلًا أقل توترًا.