الوقت- في سياق الحروب والنزاعات، تتعدد أدوات الضغط السياسي والعسكري التي تستخدمها القوى المتنازعة لتحقيق أهدافها، وفي الحالة الفلسطينية، أصبح "التجويع" اليوم أداة مركزية في ترسانة الضغط الإسرائيلي – المدعومة أمريكيًا – على حماس والشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لقد باتت المساعدات الإنسانية، التي تُفترض قانونًا وإنسانيًا أن تكون محايدة وغير مشروطة، رهينة الحسابات السياسية، ومساومة لا أخلاقية على حياة المدنيين، في انتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان الأساسية.
التصريحات الأخيرة للسفير الأمريكي الجديد لدى "إسرائيل"، مايك هاكابي، تكشف بوضوح مدى هذا التواطؤ بين واشنطن وتل أبيب في استخدام المعاناة الإنسانية كسلاح تفاوضي، فبدل أن يدعو إلى وقف العدوان وفتح الممرات الإنسانية بشكل فوري وغير مشروط، خرج هاكابي ليطالب حماس بتوقيع اتفاق مسبق مع "إسرائيل" للسماح بدخول المساعدات إلى غزة، وكأن حياة أكثر من مليوني إنسان أصبحت ورقة تفاوض في يد قوة احتلال.
من المساعدات إلى المساومات
هاكابي قال صراحة: "نطلب من حماس توقيع اتفاق حتى تتمكن المساعدات الإنسانية من التدفق إلى غزة"، وأضاف إن هذه المساعدات "يجب ألا تُصادر من قبل حماس"، هذه العبارات، وإن بدت "محايدة" في ظاهرها، تُخفي منطقًا شديد الخطورة: أن المساعدات تُستخدم كأداة ابتزاز، لا كاستجابة لحاجة إنسانية ملحّة، وهذا يتناقض جوهريًا مع كل المبادئ التي قامت عليها المنظمات الإنسانية، وعلى رأسها الأمم المتحدة.
الواقع أن المساعدات، منذ اندلاع الحرب الأخيرة في الـ 7 من أكتوبر 2023، لم تتدفق إلا على نحو جزئي ومتقطع، وغالبًا ما كانت مشروطة بـ"الهدوء"، أي وقف المقاومة، أو رُبطت بمصير الرهائن الإسرائيليين، الأسوأ أن هذه المساعدات كانت تتعرض للنهب من قبل جنود الاحتلال عند المعابر أو تُستخدم ضمن حملات دعائية أمام عدسات الإعلام الغربي، في وقت كانت مئات آلاف العائلات الفلسطينية تحفر الأرض بحثًا عن طعام لأطفالها.
تجويع الشعب لكسر الحاضنة الشعبية للمقاومة
تسعى حكومة الاحتلال الاسرائيلي من خلال استخدام سلاح التجويع إلى تحقيق هدف خفي لا يقل خطورة عن الأهداف العسكرية، وهو إحداث شرخ داخلي بين الشعب الفلسطيني والمقاومة، فمن خلال خلق بيئة معيشية قاسية وانعدام كامل للخدمات الأساسية مثل الغذاء والماء والدواء، تراهن "إسرائيل" على أن يتحوّل الغضب الشعبي من الاحتلال إلى المقاومة، وتحديدًا حركة حماس، باعتبارها الجهة التي "تُعطّل" – وفق السردية الإسرائيلية – دخول المساعدات.
هذا التكتيك، الذي طالما استخدم في سياقات استعمارية مشابهة، يهدف إلى تقويض الحاضنة الشعبية للمقاومة، ودفع الناس المنهكين من الجوع والحرب إلى المطالبة بأي تسوية مهما كانت مجحفة، فقط لإنهاء المعاناة، لكنه أيضًا رهان على المدى الطويل يفترض أن الشعب الفلسطيني يمكنه أن يتخلى عن قضيته مقابل كيس طحين أو شاحنة مساعدات، وهو ما دحضته التجربة مرارًا، حيث ظلّت روح الصمود والرفض الشعبي حية رغم كل محاولات الإخضاع والإذلال.
الهدنة كوسيلة تمديد للهيمنة
رفض حماس للمقترح الإسرائيلي الأخير الذي تضمن إدخال مساعدات مقابل تبادل للأسرى لم يأتِ من فراغ، ففي جوهره، كان المقترح الإسرائيلي محاولة لفرض "اتفاق جزئي" يكرّس حالة من اللاحرب واللاسلم، ويمنح "إسرائيل" وقتًا إضافيًا لإعادة ترتيب أوراقها ميدانيًا، كبير مفاوضي حماس قال بوضوح إنهم يرفضون مثل هذه الاتفاقات "الجزئية" التي لا تتضمن وقفًا شاملاً للحرب، وانسحابًا كاملاً من غزة، وبدء عملية إعادة الإعمار.
وبينما تروج حكومة الاحتلال وداعميها في الإعلام الغربي لسردية "عرقلة حماس للمساعدات"، تغيب الحقيقة الأكبر: أن "إسرائيل" أوقفت دخول المساعدات بنفسها، واستأنفت القصف في الـ 18 من مارس، ما أدى إلى انهيار التهدئة التي كانت قد توسطت فيها قطر ومصر والولايات المتحدة، وحسب الأمم المتحدة، فإن غزة تواجه الآن "أسوأ أزمة إنسانية منذ بداية الحرب"، مع تسجيل معدلات غير مسبوقة من الجوع الحاد، وسقوط مئات الضحايا بسبب نقص الغذاء والدواء.
من التجويع إلى الإخضاع: غايات إسرائيلية واضحة
المراقب لتسلسل الأحداث يدرك أن ما يجري ليس عشوائيًا، "إسرائيل"، بدعم أمريكي، تسعى إلى استخدام "سلاح التجويع" لتركيع الشعب الفلسطيني، ودفعه للضغط على حماس للقبول بشروط الاستسلام، هذه السياسة تُذكّر بممارسات القرون الوسطى حين كانت الجيوش تحاصر المدن وتمنع عنها الطعام والماء حتى تستسلم، الفرق الوحيد أن هذا الحصار اليوم يُمارس بأدوات أكثر تطورًا، وتحت غطاء "الشرعية الدولية".
الهدف الأكبر لـ"إسرائيل" ليس مجرد استعادة الرهائن، بل فرض معادلة سياسية جديدة في غزة، تتضمن تجريد المقاومة من سلاحها، وتعيين سلطة موالية لها، وإعادة هيكلة القطاع بما يخدم المصالح الإسرائيلية، ومن أجل ذلك، لا تتردد في تعريض المدنيين لجحيم إنساني غير مسبوق، غير آبهة بالنتائج.
الدور الأمريكي: انحياز واضح وتواطؤ إنساني
تصريحات السفير الأمريكي لا يمكن فصلها عن الموقف الرسمي لإدارة بايدن، التي دعمت "إسرائيل" سياسيًا وعسكريًا منذ بداية الحرب، ورفضت مرارًا دعوات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، بل إن واشنطن استخدمت حق النقض "الفيتو" أكثر من مرة لإجهاض مشاريع قرارات تطالب بحماية المدنيين الفلسطينيين.
الولايات المتحدة، التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، أصبحت شريكًا مباشرًا في معاقبة المدنيين، ليس فقط عبر تمويل وتسليح الجيش الإسرائيلي، بل عبر تبني خطاب سياسي يجعل من المساعدات الإنسانية مشروطة بـ"توقيع اتفاق"، هذا الخطاب يُفرّغ العمل الإنساني من مضمونه، ويمنح الاحتلال حقًا غير مشروع في التحكم بحياة شعب بأكمله.
ردود الفعل الدولية: صمت مطبق أم شجب خجول؟
رغم التحذيرات المتكررة من منظمات الإغاثة العالمية، وعلى رأسها "أوكسفام" و"أطباء بلا حدود"، إلا أن المجتمع الدولي ما زال عاجزًا عن فرض آليات تضمن دخول المساعدات بشكل آمن ودائم، بعض الدول الأوروبية أصدرت بيانات شجب خجولة، لكنها لم تتخذ أي خطوات عملية كفرض عقوبات على "إسرائيل" أو تجميد صفقات السلاح.
أما في الأمم المتحدة، فالحال لا يقل سوءًا، إذ تحوّل الملف الإنساني في غزة إلى بند دائم للتقارير والإحاطات دون أي أثر عملي، أما الشعوب، فهي الغائب الحاضر، إذ تخرج في مظاهرات متكررة في لندن وباريس ونيويورك، لكن الإرادة السياسية للحكومات تبقى رهينة الحسابات والتحالفات.
ختام القول... مقاومة الجوع... مقاومة الاحتلال
إن استخدام التجويع كسلاح سياسي ضد شعب أعزل ليس فقط جريمة أخلاقية وإنسانية، بل هو فعل يجب أن يُدان ويُجرّم دوليًا، وما يجري في غزة اليوم ليس مجرد معركة عسكرية بين "إسرائيل" وحماس، بل صراع إرادات بين مشروع استعماري يسعى إلى فرض الهيمنة بالقوة، وشعب يرفض الانكسار رغم الجوع والدمار.
من هنا، فإن صمود الفلسطينيين في وجه هذا الحصار الجديد يجب أن يُقرأ بوصفه فصلًا جديدًا من فصول المقاومة، فكما قاوموا القصف والاحتلال، ها هم يقاومون الآن بالتشبث بالحياة، برغيف الخبز، وبرفض المساومة على كرامتهم الوطنية، على العالم، إن كان لا يزال يحتفظ بشيء من ضميره، أن يتحرك فورًا لإنهاء هذا الحصار الإنساني – لا عبر شروط سياسية، بل عبر إرادة إنسانية وأخلاقية تضع حياة الإنسان قبل كل الحسابات.