الوقت - في خضم واحدة من أكثر اللحظات حساسية في التاريخ السياسي الفلسطيني المعاصر، فجّر تعيين حسين الشيخ نائبًا لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، موجة صاخبة من الخلافات داخل حركة "فتح"، وفتح بابًا مشرعًا لصراعات قد تتجاوز الحسابات التنظيمية إلى صراع وجودي داخل الحركة التي تقود المشهد الفلسطيني منذ عقود.
على الرغم من أن تعيين الشيخ، أحد أبرز المقربين من عباس، لم يكن مفاجئًا في حد ذاته، إلا أن التوقيت الحرج، والآليات التي جرى من خلالها تمرير القرار، فضلاً عن الشخصية المثيرة للجدل للشيخ نفسه، كل ذلك أجج خلافات دفينة لطالما غطتها عباءة "الشرعية التاريخية" التي تآكلت بفعل غياب الانتخابات وتهميش المنافسين.
شيخ السلطة.. لا شيخ فتح
يُنظر إلى حسين الشيخ، الذي وُلد في رام الله عام 1960، على نطاق واسع كشخصية براغماتية، ذات علاقات وثيقة مع دوائر القرار الإسرائيلي والأمريكي، وهو ما جعله –وفق محللين– مرشحًا مثاليًا بالنسبة لهذه الأطراف لقيادة المرحلة المقبلة بعد عباس، لكن هذا القبول الخارجي، يقابله رفض داخلي عميق، ولا سيما من داخل "فتح" نفسها، حيث تُتهم القيادة بتجاهل التاريخ النضالي لرموز أخرى، وبفرض تعيينات أقرب إلى منطق التوريث السياسي منه إلى مبدأ الشراكة أو الكفاءة.
وتعكس ردود الأفعال المتباينة داخل الحركة حجم الشرخ القائم؛ فبينما رأت قيادات محسوبة على "التيار الرسمي" في تعيين الشيخ خطوة نحو الاستقرار وضمان الانتقال السلس للسلطة، اعتبر خصومه أنه تتويج لنهج الإقصاء وإعادة إنتاج منظومة أُنهكت شعبيًا وأخلاقيًا.
تاريخ من التهميش وتراكم النقمة
لم يكن هذا التعيين معزولًا عن سياق من التوترات داخل "فتح"، التي تشهد منذ سنوات حالة من التكلس التنظيمي والانقسام الصامت، فالتنظيم الذي وُلد من رحم الثورة، بات يشهد صراعات أجنحة، تتراوح بين الولاءات الشخصية، والارتباطات الإقليمية والدولية، والمصالح الاقتصادية والأمنية المتشابكة.
ويقول مراقبون إن قادة بارزين في "فتح"، أمثال جبريل الرجوب ومروان البرغوثي (المعتقل لدى إسرائيل)، بالإضافة إلى شخصيات تم تهميشها مثل ناصر القدوة وسلام فياض، يرون في تعيين الشيخ "انقلابًا على مفهوم النضال التاريخي"، وإمعانًا في ضرب وحدة الحركة من الداخل.
قلق من سيناريوهات الفوضى
تتحدث مصادر داخلية عن توقعات بتصعيد ميداني في الضفة الغربية، تشمل احتجاجات، وربما استقالات جماعية أو انشقاقات داخلية، وقد لا يُستبعد –كما تقول بعض التقارير– حدوث اشتباكات مسلحة بين فصائل تتبع مختلف الأجنحة داخل الحركة، في حال قررت القيادة المضي قدمًا في تسويق الشيخ كـ"رئيس محتمل" دون توافق وطني حقيقي.
هذا الاحتمال يعززه المزاج الشعبي الغاضب من أداء السلطة، وخصوصاً في ظل الحرب المستعرة في غزة، وتصاعد التنسيق الأمني مع "إسرائيل"، وهو ما يمنح رواية المعارضة الفتحاوية زخمًا مضاعفًا.
دعم إسرائيلي – عربي غير مسبوق
تكشف التقارير العبرية أن ترشيح الشيخ جاء بضغط دولي واضح، وتوافق عربي استثنائي، تمثل في دعم أطراف إقليمية نافذة لهذا التعيين، كجزء من تفاهمات ما بعد حرب غزة، وإعادة ترتيب النظام السياسي الفلسطيني بما يخدم مرحلة ما بعد عباس، وفق الرؤية الإسرائيلية والأمريكية.
واعتبرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن الشيخ أثبت ولاءه الكامل لعباس، بل شارك في كل قراراته المثيرة للجدل، من تعطيل الانتخابات إلى قطع رواتب الأسرى والشهداء، وصولاً إلى التنسيق الأمني الكامل.
أما صحيفة "واللا"، فقد وصفته صراحة بأنه "واجهة تنسيق مع إسرائيل"، مشيرة إلى شبكة علاقات متشابكة مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، اكتسبها خلال سنوات إدارته لهيئة الشؤون المدنية.
أزمة شرعية متفاقمة
في الداخل الفلسطيني، اعتُبر تعيين الشيخ خطوة خارج المسار القانوني، حيث أكدت شخصيات قانونية ووطنية، كربحي حلوم، أن هذا القرار ليس من صلاحيات الرئيس عباس، بل من اختصاص المجلس الوطني الفلسطيني، وعليه، فإن كل ما بني على هذا القرار هو –وفق توصيفهم– "مخالف للنظام الداخلي لمنظمة التحرير وميثاقها القومي".
"رجل رام الله".. بعيون الفلسطينيين
ربما تكون أكثر التوصيفات تعبيرًا عن مأزق حسين الشيخ هي تلك التي وردت في تقرير "سيحا مكوميت" العبري، والذي وصفه بأنه "رجل إسرائيل في رام الله"، في إشارة إلى كونه نتاجًا لتأهيل دبلوماسي ممنهج برعاية الاحتلال، مع سجل حافل في قمع المعارضة الفلسطينية الداخلية، وتسهيل إدارة الاحتلال للضفة الغربية.
وارتبط اسم الشيخ كذلك باتهامات فساد وسلوكيات شخصية مثيرة للجدل، زادت من عزلة صورته أمام الشارع الفلسطيني، المتعطش لقيادة تُعبر عن تطلعاته وآلامه، لا عن مصالح وتفاهمات نخبوية بعيدة عن النبض الشعبي.
ختاماً يمكن القول إن تعيين حسين الشيخ نائبًا للرئيس، وإن بدا قرارًا إجرائيًا في ظاهره، إلا أنه كشف عمق الأزمة البنيوية داخل "فتح" والسلطة، بل ربما في النظام السياسي الفلسطيني كله، الذي يقف على حافة إعادة التشكل وسط تحديات مصيرية.
وفي ظل غياب التوافق الوطني، واستمرار التدهور في العلاقة بين السلطة والشعب، فإن كل رهان على أن تكون هذه الخطوة بوابة انتقال سلس للسلطة، يبدو أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع، ما لم تجر مراجعة شاملة تضع الإرادة الشعبية ومبدأ الشراكة الوطنية في صميم أي حل قادم.