الوقت - مع بزوغ فجر الثلاثاء المنصرم، انقضت رسمياً المهلة المحددة لانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من القرى الحدودية في جنوب لبنان، حيث أصدرت القيادة العامة للجيش اللبناني بياناً رسمياً أكدت فيه انتشار وحداتها العسكرية في إحدى عشرة بلدة جنوبية.
وأوضحت القيادة العسكرية اللبنانية في بيانها: "باشرت قواتنا عمليات المسح الهندسي الشامل، وإعادة فتح شبكة الطرقات، والتعامل باحترافية مع المتفجرات غير المنفجرة والأجسام المشتبه بها".
يأتي هذا التصريح الرسمي في أعقاب ما كشفته وكالة الصحافة الفرنسية، نقلاً عن مصادر أمنية، من انسحاب القوات الإسرائيلية من غالبية القرى الحدودية في الجنوب اللبناني، مع احتفاظها بخمس نقاط استراتيجية.
وكان الكيان الصهيوني قد أعلن صراحةً عن نيته الإبقاء على وجوده العسكري في خمس مناطق حيوية من الأراضي اللبنانية، متجاهلاً الموعد النهائي المقرر للانسحاب الشامل من جنوب لبنان.
وتتمثل هذه المواقع الاستراتيجية في: مرتفعات جبل بلاط، والموقع الاستراتيجي في تلة لبونة، والنقطة الحصينة في تلة العزية، والموقع المتقدم في تلة العويدة، والمرتفع الاستراتيجي في تلة الحمامس.
وفي تطور لافت، نقلت القناة 13 الإسرائيلية عن مصادر عسكرية رفيعة المستوى، تأكيدها أن قوات الاحتلال ستحتفظ بحق التدخل في المناطق الخالية من الوجود العسكري اللبناني، مع التعهد بالتصدي الحازم لأي خرق محتمل.
وصرّح الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، ناداف شوشاني، قائلاً: "في ضوء المستجدات الراهنة، سنقوم بنشر قوات محدودة بصورة مؤقتة في خمسة مواقع استراتيجية على امتداد الشريط الحدودي مع لبنان، وذلك لضمان الحماية المستمرة لمستوطنينا، والتيقن من انتفاء أي تهديدات محتملة".
وفي تطورٍ خطيرٍ يُنذر بتصعيد الموقف، أفادت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية بأن الطائرات الحربية الإسرائيلية، قد شنّت غارتين على نهر الليطاني في المنطقة الممتدة بين جسر لحد ومنطقة المحمودية في بلدة العيشية بقضاء جزين، وقد أثار هذا الخرق الصارخ لاتفاقية وقف إطلاق النار، موجةً من الاستنكار الشديد في الأوساط الرسمية اللبنانية.
وفي هذا السياق، عبّر الرئيس اللبناني جوزيف عون، خلال لقاءاته الدبلوماسية يوم الاثنين، عن بالغ قلق بلاده إزاء تلكؤ الكيان الإسرائيلي في تنفيذ الانسحاب الشامل، مناشداً الدول الوسيطة في الاتفاق، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الفرنسية، بممارسة الضغوط اللازمة على "إسرائيل"، للامتثال لبنود الاتفاقية والشروع في الانسحاب، وأضاف قائلاً: "يتحتم على الأطراف الداعمة لهذا الاتفاق، النهوض بمسؤولياتها في مؤازرتنا".
وفي موقفٍ حاسمٍ، أكد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة اللبنانية يوم الثلاثاء، أن لبنان يعتبر أي وجود إسرائيلي مستمر على أراضيه بمثابة احتلالٍ صريح، مشدداً على حق لبنان المشروع في استخدام كل الوسائل المتاحة، لضمان جلاء قوات الاحتلال، وألمح إلى أن لبنان قد يلجأ إلى مجلس الأمن الدولي، لإرغام "إسرائيل" على الانسحاب "الفوري" من الجنوب اللبناني.
وفي سياقٍ متصل، كان الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، قد أدلى بتصريحاتٍ حاسمة في خطابٍ متلفز تم بثّه يوم الأحد الماضي، حيث شدّد قائلاً: "يتعين على الكيان الإسرائيلي الانسحاب الشامل والمطلق في الثامن عشر من فبراير، ولن نقبل بأي ذريعة للبقاء على أراضينا، وليكن معلوماً أن أي وجود عسكري إسرائيلي على التراب اللبناني بعد هذا التاريخ، سيُعدّ احتلالاً صريحاً".
ووفقاً للجدول الزمني المنصوص عليه في اتفاقية وقف إطلاق النار الممتدة لستين يوماً، والتي دخلت حيز التنفيذ في السابع والعشرين من نوفمبر عام 2024، كان يتحتم على جيش الاحتلال الإسرائيلي استكمال انسحابه من المناطق التي يحتلها في جنوب لبنان بحلول فجر السادس والعشرين من يناير، بيد أن تل أبيب لم تلتزم بهذا الموعد النهائي، ما دفع واشنطن - عبر مفاوضات بين لبنان والكيان الإسرائيلي - إلى الإعلان عن تمديد المهلة حتى الثامن عشر من فبراير.
استئناف الحرب: الكابوس الأكبر للكيان الصهيوني
في حوارٍ أجراه موقع "الوقت" مع المحلل البارز في شؤون غرب آسيا، السيد جعفر قنادباشي، قدّم الأخير تحليلاً ورؤيةً استشرافيةً حول تداعيات خرق الكيان الصهيوني للهدنة وآفاق المشهد المستقبلي، حيث أفاد قائلاً:
"على امتداد العقدين المنصرمين، شكّلت الساحة اللبنانية الجنوبية، بفعل التموضع الاستراتيجي لقوات المقاومة الإسلامية - حزب الله، هاجساً أمنياً يؤرق الكيان الصهيوني بصورة تفوق ما تمثّله أي جبهة أخرى، وفي ضوء ذلك، يسعى صناع القرار الإسرائيليون حثيثاً لتهيئة المناخات الملائمة للحدّ بصورة جوهرية من المخاطر المستقبلية المحدقة بأمن كيانهم، إذ يتطلع الكيان إلى منع استمرار التموضع الاستراتيجي لقوات حزب الله وفق النمط السائد سابقاً، علاوةً على ذلك، تحدو الإسرائيليين أطماع توسعية، إذ يرمون إلى مدّ نطاق سيطرتهم على مزيد من الأراضي المحتلة".
وأردف الخبير في الشؤون الإقليمية: "في ضوء الضربات الموجعة والخسائر الفادحة التي تكبدها الكيان الصهيوني على يد حزب الله في الجنوب اللبناني، فإن هدفهم الراهن ينصبّ في المقام الأول على الحيلولة دون إعادة تعزيز القدرات العسكرية لحزب الله في أقصى جنوب لبنان.
وكما هو معلوم، فإن أول هزيمة مدوية مُني بها الكيان منذ نشأته، تمثلت في اندحاره من جنوب لبنان عام 2000، تلتها الهزيمة النكراء في حرب الثلاثة والثلاثين يوماً عام 2006، والتي قوّضت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وعليه، يمكن استخلاص أن الجبهة اللبنانية الجنوبية تتسم بخصوصية فريدة، وأن حزب الله يمتلك أرقى القدرات وأكثرها تطوراً في إعادة بناء قواته القتالية على جبهات المواجهة مع الکيان الإسرائيلي".
وفي معرض تحليله لموقف الحكومة اللبنانية الراهنة من استمرار الاحتلال الصهيوني، أوضح قناد باشي: "يؤسفني القول إن الحكومة اللبنانية الحالية تعاني من هشاشة بنيوية في مواقفها، إذ تجد نفسها - في كثير من الأحيان - منساقةً وراء الإملاءات الأمريكية، فرغم ما تطلقه من تصريحات وشعارات تندّد بالممارسات الصهيونية، إلا أن سياساتها على أرض الواقع تتجاهل - بصورة صارخة - تطلعات الشعب اللبناني وآماله، وتقف الحكومة اليوم في مفترق طرق حساس: فإما أن تنحاز إلى المصالح الوطنية العليا وتستجيب لنداء الشعب اللبناني، وإما أن تذعن للضغوط الأمريكية-الفرنسية وتمضي في ركابهما".
وفيما يتعلق باستراتيجية حزب الله في مواجهة استمرار الاحتلال الصهيوني، أكد المحلل: "أن ما يميّز حزب الله ويجعله قوةً لا يُستهان بها، هو قدرته الاستثنائية على الصمود والثبات، مقرونةً بإرادة صلبة في مواجهة الکيان الصهيوني، وعلى الرغم من أن قوى الاستكبار العالمي تسعى جاهدةً إلى تقويض قدرات الحزب وتحجيم دوره المقاوم، إلا أن الترابط العقائدي العميق والتماسك الفكري المتين بين صفوف مقاتليه، قد أكسبه مناعةً فريدةً وقدرةً متناميةً على مواجهة أعتى التحديات، بل تجاوزها بكفاءة تفوق ما كان عليه في السابق".
وأردف قائلاً: "لقد أثبتت التجارب التاريخية أن حزب الله يمتلك من المقومات والإمكانات، ما يؤهّله ليس فقط للصمود في وجه المخططات الصهيونية، بل إفشالها وإلحاق الهزائم المتتالية بالکيان، ولعل السر في ذلك، يكمن في المزج الفريد بين العقيدة الراسخة والتخطيط الاستراتيجي المحكم والقدرات العسكرية المتطورة، وهو ما يجعل من حزب الله قوةً إقليميةً لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها في أي معادلة مستقبلية".