الوقت - في مفارقة لافتة للتوقعات التي راهنت على انصراف القيادة اللبنانية الجديدة - ممثلةً في رئيسي الجمهورية والوزراء - نحو الأولوية الوطنية القصوى المتمثلة في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، نشهد انزلاقاً نحو مسار يتماهى مع أجندات الخصوم، عبر تأجيج الانقسامات الداخلية.
إذ شهدت الساحة اللبنانية ليلة البارحة تحركات احتجاجية واسعة في محيط المطار، حيث توافد المئات من المواطنين تعبيراً عن رفضهم للقرار الأحادي بتعليق الرحلات القادمة من طهران، وتندرج هذه التطورات ضمن سلسلة من الممارسات غير الودية التي شهدتها الأشهر المنصرمة، بما فيها التضييق على البعثات الدبلوماسية الإيرانية في مطار بيروت الدولي، ما أثار موجة استياء شعبي عارمة في الأوساط اللبنانية.
تتكشف فصول الأزمة منذ اللحظة التي أعلنت فيها السلطات المختصة في مطار الإمام الخميني الدولي بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، عن تعليق الرحلات الجوية المتجهة إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك اعتباراً من يوم الخميس، في أعقاب عدم منح هيئة الطيران المدني اللبنانية التصاريح اللازمة لاستئناف تلك الرحلات.
وفي تداعيات هذا القرار المفاجئ من قِبَل السلطات الجوية اللبنانية، وجد العشرات من المواطنين اللبنانيين أنفسهم عالقين في العاصمة الإيرانية طهران لساعات طويلة، ما حدا بالحكومة اللبنانية إلى توجيه مواطنيها للسفر عبر الخطوط الجوية القطرية، كبديل مؤقت للوصول إلى وطنهم، وعقب موجة الاستياء الشعبي والاحتجاجات التي أثارها هذا القرار، سارعت هيئة الطيران المدني اللبنانية إلى إصدار بيان رسمي، أوضحت فيه أن التعديلات المستحدثة على جداول الرحلات، تأتي في إطار الحرص على سلامة المسافرين وأمنهم.
وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، اجتاحت موجة من الغضب العارم الشارع اللبناني، حيث خرجت حشود غفيرة في مظاهرات واسعة النطاق، وفي خطوة تصعيدية، قام المحتجون - عقب إلغاء تصريح هبوط الطائرة الإيرانية المُقِلَّة للزوار اللبنانيين - بإغلاق طريق سليم الاستراتيجي، أحد أهم المحاور المؤدية إلى مطار رفيق الحريري الدولي، وقد رفع المتظاهرون هتافات مدوية، من بينها "لن نسمح للأمريكيين بالتحكم بمصيرنا"، معتبرين أن هذا القرار ما هو إلا انعكاس مباشر للضغوط الخارجية المفروضة على لبنان.
وفي سياق متصل، أصدر حزب الله بياناً حاسماً جاء فيه: نهيب بالحكومة اللبنانية الاضطلاع بمسؤولياتها الوطنية لوضع حد لهذا الوضع المتأزم، ولا ينبغي أن يتوهم العدو أن بإمكانه المضي قدماً في أي اعتداء أو انتهاك للسيادة الوطنية دون رادع".
وفقاً لما أوردته المصادر الإعلامية اللبنانية، فقد أصدر رئيس الوزراء اللبناني، السيد نواف سلام، توجيهاته إلى وزير الأشغال العامة بتعليق هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بيروت الدولي، وذلك لحين صدور القرار النهائي المرتقب يوم الإثنين المقبل.
وفي سياقٍ متصل، أدلى السفير الإيراني في لبنان، السيد مجتبى أماني، بتصريحاتٍ دبلوماسية أكد فيها أن المساعي الحثيثة تجري على أعلى المستويات لاستئناف الرحلات الجوية في مسارها الطبيعي، مشدداً على أن رحلات الخطوط الجوية الإيرانية "إيران إير"، ستواصل خدماتها المعتادة خلال الأسبوعين الجاري والمقبل. وأردف قائلاً إن قرار تعليق الرحلات قد أثار جملةً من التفسيرات المتباينة، من بينها ما يتعلق باحتمالية وجود مساعٍ لبنانية للحد من المشاركة الإيرانية في مراسم تشييع سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الإجراء، ليس الأول من نوعه في سياق التعامل مع الرحلات الإيرانية المتجهة إلى العاصمة اللبنانية، فقد شهد الرابع عشر من الشهر المنصرم حادثةً مماثلةً، حيث خضع المسافرون القادمون من طهران لإجراءات تفتيش استثنائية ومشددة عند وصولهم إلى مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري الدولي، تضمنت تفتيشاً دقيقاً للأشخاص والأمتعة بصورة غير معهودة.
وأشارت المصادر المطلعة إلى أن السلطات الأمنية في المطار، حاولت كذلك إخضاع حقائب الوفد الدبلوماسي الإيراني للتفتيش، ما أدى إلى نشوب توتر دبلوماسي إثر رفض أعضاء البعثة الدبلوماسية الامتثال لهذا الإجراء غير المسبوق.
بصمات الصهاينة في الأزمة
في خِضَمِّ غياب التصريح الرسمي من السلطات اللبنانية حول الدافع الأساسي وراء هذا القرار، يذهب خبراء التحليل السياسي إلى اعتباره ثمرةً للضغوط السياسية الدولية المتصاعدة، الأمر الذي أفضى إلى موجة من القلق والاستياء في أوساط المسافرين والمواطنين في كلا البلدين.
وقد تزامن إصدار القرار اللبناني بتعليق الرحلات الجوية بين العاصمتين طهران وبيروت، مع مزاعم أطلقها أفيخاي أدرعي، الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال الصهيوني، حيث نشر ليلة الأربعاء عبر منصة "إكس" ادعاءات مفادها بأن "مطار بيروت يُستخدم كمعبر لتحويل الأموال إلى حزب الله عبر الطائرات الإيرانية".
وفي السياق ذاته، ذهبت صحيفة "جيروزاليم بوست" إلى الادعاء بأن هذا القرار، جاء استجابةً للتحذيرات الإسرائيلية الموجهة إلى المسؤولين اللبنانيين، وفي خضم هذه التطورات، وجَّه مواطن لبناني عالق في مطار طهران رسالةً مؤثرةً إلى السلطات اللبنانية، قائلاً: "ما نحمله في حقائبنا لا يتعدى الحلويات والملابس"، مناشداً القيادات العليا في الدولة - رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة - التدخل العاجل لحلحلة هذه الأزمة.
ويُذكر أن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ووزراءه المتطرفين ما فتئوا يرددون مزاعمهم بأن إيران تسعى جاهدةً إلى تعزيز قدرات حزب الله عبر إمداده بالأسلحة والأموال، بهدف تقويض الأمن في الأراضي المحتلة.
استهداف حزب الله
في ظل التشابك المعقد بين التحركات السياسية اللبنانية والمتغيرات الإقليمية الراهنة، يؤكد المحللون أن تحركات بيروت الأخيرة تنطوي على دلالات عميقة وأبعاد استراتيجية، تستدعي التحليل المتأني.
وفي هذا المضمار، أدلى الخبير البارز في شؤون غرب آسيا، السيد جعفر قنادباشي، بتصريحات لافتة لموقع "الوقت"، حيث أوضح قائلاً: "نشهد مساعي محمومة تستهدف تقويض العلاقة الاستراتيجية بين حزب الله وإيران، في محاولة منهجية لإضعاف قدرات المقاومة، فالقيادة الصهيونية تروّج لمزاعم مفادها بأن استمرار التواصل بين طهران وحزب الله، من شأنه تعزيز القدرات العسكرية والتنظيمية للمقاومة، وإعادة بناء قوتها، الأمر الذي يشكّل - من منظورهم - تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني".
واستطرد قنادباشي في تحليله قائلاً: "في أعقاب التحولات الجيوسياسية في سوريا وانقطاع خطوط الإمداد البرية لحزب الله، يسعى الكيان الصهيوني جاهداً إلى إحكام قبضته على المسارات الجوية، في مسعى محموم لعرقلة التواصل بين طهران ومحور المقاومة، بيد أن هذه المحاولات محكوم عليها بالإخفاق، إذ إن لبنان ليس كياناً منعزلاً يمكن تطويقه بمجرد السيطرة على مجاله الجوي، ومن ثم فإن مساعي قطع أواصر العلاقة بين المقاومة وطهران عبر هذه الوسيلة، ستبوء بالفشل الذريع".
وأكد قناد باشي، في معرض تعليقه على ما يُثار حول تعليق الرحلات الجوية في أعقاب التحذيرات الإسرائيلية، وما إذا كانت ثمة تفاهمات قد أُبرمت بين حكومة نواف سلام والكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية، قائلاً: "إن هذا الإجراء يأتي بتوجيهات أمريكية مباشرة، حيث دأبت السفارة الأمريكية في بيروت على تنفيذ هذا المخطط منذ أشهر، مُمارسةً ضغوطاً متواصلةً على صناع القرار اللبنانيين، بل إن الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان ذاتها، تندرج ضمن استراتيجية واشنطن الرامية إلى إضعاف حزب الله".
وفي سياقٍ متصل، وبموجب اتفاقيات وقف إطلاق النار المُبرمة، يتعين على قوات الاحتلال الانسحاب من الجنوب اللبناني بحلول الثامن عشر من فبراير، غير أن رئيس المجلس النيابي اللبناني، نبيه بري، كشف يوم الجمعة المنصرم عن إخطارٍ أمريكي يفيد ببقاء القوات الإسرائيلية في خمس مناطق - وهو ما استتبع رفضاً قاطعاً من القوى المتحالفة مع المقاومة.
وفي هذا الصدد، صرّح بري، رئيس حركة أمل، قائلاً: "لقد أبلغتُ الجانب الأمريكي، متحدثاً باسمي وباسم فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الوزراء، رفضنا القاطع لهذا التوجه، مؤكداً أنه في حال استمرار الاحتلال في أراضينا، فإن مسؤولية التصدي له ستقع على عاتق الدولة اللبنانية، وسيضطلع الجيش بدوره كاملاً جنوب الليطاني".
يتجلى أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يسعيان، عبر توظيف ورقة استمرار الاحتلال كأداة ضغط، إلى انتزاع تنازلات جوهرية من الحكومة اللبنانية وقطع صلاتها بإيران، وسدّ ما يزعمون أنها خطوط إمداد حزب الله، وعليه، فليس مستبعداً أن يُقدم نواف سلام على تعليق الرحلات الجوية الإيرانية إلى بيروت، مقابل الحصول على ضمانات بانسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب اللبناني.
وكانت إدارة ترامب قد أوفدت مؤخراً مبعوثها إلى لبنان، ناقلةً إلى المسؤولين الجدد موقف واشنطن الرافض لأي دور لحزب الله في المنظومتين السياسية والأمنية اللبنانيتين. إذ تسعى الولايات المتحدة و"إسرائيل" جاهدتين لتجريد حزب الله من سلاحه، وحصر المسؤولية الأمنية بيد الجيش اللبناني، بغية تأمين الأراضي المحتلة في ظل غياب قوة ردع فاعلة على الجبهة الشمالية.
الخشية من تشييع مهيب للسيد نصر الله
في ظل التحضيرات المرتقبة لمراسم تشييع الشهيد السيد حسن نصر الله في السادس والعشرين من شباط/فبراير، يُلقي السيد قناد باشي الضوء على العلاقة الوثيقة بين تعليق الرحلات الجوية بين طهران وبيروت وهذا الحدث الجلل، مصرحاً: "تسعى السلطات اللبنانية، عبر هذه العراقيل المستحدثة، إلى الحدّ من المشاركة الجماهيرية الواسعة في وداع الشهيد نصر الله.
بيد أن الحقائق على الأرض تؤكد أن حزب الله، قد نسج نسيجاً متيناً مع مختلف شرائح المجتمع اللبناني وقواه السياسية وطوائفه المتنوعة، وحظي بمكانة راسخة في قلوب اللبنانيين، مستنداً إلى سجل حافل من التضحيات والبطولات في الذود عن حياض الوطن وكرامة المواطنين، ومن ثم، فإن أي محاولات لتحجيم دوره في المشهدين السياسي والأمني محكوم عليها بالفشل الذريع.
ولقد جاء التدفق الجماهيري العفوي إلى الشوارع، احتجاجاً على التدابير الحكومية، ليؤكد مجدداً على الثقل الشعبي للمقاومة وقدرتها على استنهاض الجماهير، وكلما تجلت هذه القوة التعبوية، ازداد الحزب رسوخاً في الوجدان الشعبي، وتجذراً في النسيج الاجتماعي اللبناني، فاللبنانيون، بطبيعتهم، يأبون الخضوع لأي وصاية خارجية أو تدخل في شؤونهم المصيرية والأمنية - وهو ما يفسّر التفافهم حول نهج المقاومة".
وفي تحليله لانعكاسات قرار بيروت على العلاقات مع طهران، يشدّد الخبير في الشأن الإقليمي: "إن المصلحة الوطنية اللبنانية تقتضي الحفاظ على علاقات متوازنة ووطيدة مع إيران، بعيداً عن الارتهان لمحور الرجعية العربية، تتطلع الجمهورية الإسلامية من الحكومة اللبنانية الجديدة إلى الالتزام بتوجهات رئيس الجمهورية، والتصدي بحزم لأي محاولات خارجية تستهدف تقويض العلاقات الثنائية.
إن السياسة الإيرانية الثابتة تقوم على احترام السيادة اللبنانية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، مع العمل الدؤوب على صون لبنان من أن يتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية - وهو موقف يلتقي مع تطلعات الشعب اللبناني وخياراته السيادية".